الحقوق للبعض وليست للآخرين: الهجرة على هوامش حقوق الإنسان
يُفترض بميثاقات الحقوق أن تخلق المعنى وأن تؤثّر إيجابًا على حياة الناس، لكن السلطات وجهات الهيمنة تضع هذه الحقوق ضمن فضاءات مرسومة الحدود ومقسمة إلى هرميّات طبقيّة وعرقيّة وجندريّة تسيطر عليها مما تيفقِد الحقّ من معناه المكاني او عبر الحدود، خاصة للغالبية العظمى من قاطني الدول النامية. لقد اتاحت لي تجربتي الشخصية بين عامي 2011 و2016، أن أكتشف الرابط بين المساحة والسلطة على مستويين مختلفين: في المؤسسات الوطنية في الوطن وخارجه وفي دول اخرى خلال تنقلاتي في العديد من الدول على مدى تلك السنوات الستّ. إن الغوص في الجانب السياسي للمفهوم المساحة الحرة يكشف عواقب السيطرة على هذه المساحات على حياة الناس وبالتالي على هويّاتهم، وبناء عليه فإن الخطاب السائد حول حقوق الإنسان بشكله الحالي، لا ينتهك الحقّ الأساسي في الاختيار الحرّ فحسب، بل يعمل كأداة للحفاظ على النظام العالميّ السائد وتسلسله الهرميّ. بداية، إن حقيقة اعتماد الحقوق اليوم إلى حدّ كبير على مفاهيم مبنية على التفرقة بين البشر (بما فيها التجزئة المكانيّة والرأسماليّة والجندريّة والعنصريّة)، تؤكد عدم كفاية ميثاق الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان وتقتضي مراجعة تاريخية لآثاره السلبية حتى وإن كانت غير مقصودة. وبالتالي، علينا إعادة التفكير في حقوق الإنسان خارج إطار مفهوم الدولة القومية ومؤسساتها الأيديولوجيّة، وفتح المجال لآليّات واستراتيجيّات بديلة بنّاءة تركّز على أولئك الذين يعيشون على هوامش النظام العالمي الحالي. ا المبني بطبيعته ليحافظ على نظام هرميّ يتمتّع فيه بعض الناس بالامتيازات ويستمر حرمان الآخرين منها. وحتى ذلك اليوم الذي نُعيد فيه التفكير في الخطاب الدولي لحقوق الإنسان ونُعيد كتابته بطريقة تضمن العدالة لجميع البشر، سوف يظل الجدل حول حقوق الإنسان مجوّفًا ومعتلاً ما يخدم الهرميات العرقيّة والطبقيّة والجندريّة الحالية.
في العام ٢٠١٧، كنت قد حصلت على حق اللجوء ووثيقة سفر للّاجئين من وزارة الداخلية في المملكة المتحدة، مُنحت بموجبها، ولمدّة ٥ سنوات، شرف الترقّي إلى إنسان يستحق الحقوق والحماية. ورغم عدم غياب التحدّيات، فقد كان تأثيرها إيجابيًا على حياتي. بيد أن رحلة طلب اللجوء تستدعي مزيداً من التفكير والتعمّق، حيث ما يزال الآلاف من عديمي الجنسية والمهاجرين القسريين عالقين، وبعضهم منذ سنوات، على الحدود أو في أنظمة اللجوء، حيث لا يمكنهم التمتّع بأبسط حقوق الإنسان. أهدي هذه الورقة لهم ولهنّ.
Tears in the fabric.png
تحديد السياق
استخدم النظام السوريّ شتّى الأساليب للسيطرة على الفضاء وعلى التمثيل المكانيّ. وتمثّلت أدوات السيطرة على الفضاء العام بصور آل الأسد، والمسيرات الجماهيريّة "العفويّة" الإجباريّة لدعم النظام وسياساته، وكذلك قانون الطوارئ، وإنشاء أكثر من 13 جهاز أمنيّ واستخباراتيّ تعمّد الاختطاف والتعذيب (مالفيغ 2016؛ هوغبول 2008). كما الحال في برج المراقبة الذي يرى الجميع أو البانوبتيكون لدى فوكو، تمّ تجسيد السلطة من خلال أمّة "سوريّة" متخيَّلة (لاكوتر، 1970) وتقديمها في المساحات العامّة على شكل نظرة القائد الذي يحدّق من صوره وتماثيله (سكراني، 2013؛ ميتشل، 2016). يقول سكراني (2013) إن الإفراط بالاحتفال ببشّار الأسد من خلال صوره المنتشرة في الفضاءات العامّة للدولة (وحتى تلك الخاصة) كان بمثابة تذكير دائم بالديكتاتوريّة. وكما يشرح ميتشل (2005: 47): "لا تقلّ الرؤى أهمية عن اللغة في التوسّط في العلاقات الاجتماعية". كما ترافق التمثيل البصريّ مع خطاب الصحف الحكومية الثلاث المسموح بها، للاستئثار بالأماكن العامّة ونشر دعاية النظام وتأديب الشعب (سكراني، 2013). ترافقت الصورة والخطاب مع اعتماد الدولة البوليسيّة على أعمال العنف المرئيّة وغير المرئيّة، مثل الإخفاء القسري وتعذيب سجناء الرأي، ما أدّى إلى إثارة الخوف والرعب بين الناس (هوغبول، 2008). وهكذا، أنتجت الدولة البوليسيّة مجالًا عامّاً "يُرى فيه المرء، لكنّه لا يَرى، فهو موضوع معلومات، لا موضوع تواصل" (فوكو، 1991: 200)، وظهرت عبارات مثل "الحيطان إلها آذان"1 تعبّر عن الرقابة الذاتيّة والرهبة من السلطات. كانت السلطة الديكتاتوريّة تكذب في قدرتها على تأديب شعبها ضمن سياسات التصرّف "كما لو أنّها"، بعبارات ويدين (1999)، تبني الولاء والطاعة بشكل أدائيّ تغيب عنه الأصالة. وقد انتقل ذلك عبر الحدود الوطنية إلى لبنان، بين العامين 1976، مع بدايات الحرب الأهلية، و2005، بُعيد اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، ولم يعد بالإمكان التهكّم على النظام السوريّ خوفًا من المخابرات السوريّة. وقد أخبرتني صديقة لبنانيّة بمنع والداها التلفّظ بأيّ أمر سلبيّ تجاه نظام الأسد، حتى عندما كانت صغيرة.
بدأت محاولات إحياء الفضاء العام المخنوق في سوريا تتنامى منذ العام 2001، وقد تجلّت بدايات الحركة الديناميكيّة والمتنوعة واللامركزيّة والمنظّمة في العام 2011 في تظاهرات وظّفت الروتين المكانيّ للحياة اليومية، كالمساجد والساحات والشوارع والأحياء الكبيرة والصغيرة، ورسمت الحدود المجموعة لمختلف الأشخاص، وقامت بخلق نظام اجتماعيّ ومكانيّ جديد. خلال انتفاضة 2011، دوّن السوريّون/ات رواية مضادّة للتمثيل المكانيّ والبصريّ بالكتابة على الجدران والكاريكاتور والملصقات واللافتات واللوحات ومقاطع الفيديو وتظاهرات الشوارع، بهدف "المرئيّة والتمثيل البصريّ"، وبالتالي استعادة المساحة العامّة (مالفيغ، 2016: 258). واستهدفت الانتفاضة أيضًا صور وتماثيل القائد استهدافًا مباشرًا، واستبدلتها بـ"الفنّ النقديّ" الثوريّ الذي عرّفه موف (موف، 2007: 4) بـ"الفنّ الذي يحرّض على الاختلاف، والذي يُفشي ما يميل الإجماع السائد للتعتيم والقضاء عليه". قام الحضور الماديّ للناس واستخدام التمثيل البصريّ بإثبات قوّتهما، وباتا يهدّدان الهيكل الاستبداديّ، ما قد يفسّر حملة العنف الهائلة ضدّ المتظاهرين/ات، الذي لم يُمارَس بشكله الماديّ فحسب، بل كان يأتي في الخطاب والإنتاج المرئي والعدوان السيبرانيّ (عبر الإنترنت) والنفي كذلك. استُخدم العنف لتقليص المساحات التي سبق للناس استعادتها سلميّاً، وإعادتها إلى سيطرة أطراف السلطة. لقد منع النظام الناس من الأماكن العامّة والخاصة، مما أرغمهم على مغادرة البلاد والدخول في دوّامة بلا نهاية من الحرمان من المساحة والحركة في الدول القومية الأخرى (بما في ذلك عمليات اللجوء الطويلة، والقوانين التي تمنع وصول المهاجرين، وتجريم قوارب الإنقاذ والتضامن بين الناس، وإجبارهم على النزوح المعاكس، مثل تجربة اللاجئين/ات في تركيا وفي لبنان). هذا 2الردّ المحلّيّ والدوليّ على الحراك الشعبي نحو سوريا ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، بما في ذلك الحقّ في الفضاء والتنقّل، يضع مزاعم الأمم المتحدة بشأن حقوق الإنسان موضع التساؤل.2 فمنذ الحرب العالمية الثانية، تسبّبت السيطرة على الفضاء وتقييد حركة الأشخاص بانتهاكات خطيرة ضدّ مليارات الأشخاص في جنوب الكرة الأرضية. وفي ضوء هذا الزعم، سوف أستَخدم رحلة تنقّلي الشخصية كامرأة سوريّة لاستكشاف الممارسة المتأصّلة للحق الطبيعي في حرّية التنقّل في إطار التنمية الفرديّة والجماعيّة.
التجارب الشخصية للفضاء والسلطة في سوريا
تعود تجربتي الأولى مع تقييد الفضاءات إلى المدرسة الابتدائية، عندما تركت مكاني ذات مرّة لاستعارة ممحاة من زميلي، فأمرتني المعلّمة بفتح يداي لتضربني بعصًا خشبيّة عريضة. رَفضْت، فأوقفتني أمام الحائط خارج غرفة الصفّ، وما لبثت أن استمعت لمحاضرة في غرفة الناظر حول أهمية أخذ الإذن قبل التحرّك داخل الصفّ. كان عليّ اكتساب مهارة "الانضباط"، كما أكّد الناظر، وأُُجبرت على الاعتذار للمعلّمة التي عاقبتني. إن تأكيد الهيمنة على المساحة في الفصل الدراسي كان يعني حرماني من حرّية الحركة، وللمفارقة، من حرّية التعليم. شعرتُ بالإهانة من هذا الأمر الذي دفعني إلى الإحساس بالذنب وأن ألوم نفسي. وقد بات علىي، لكي أتجّنب مثل هذه الحوادث في المستقبل، أن أطلب الإذن، أي أن أمتثل لقواعد الفضاء والحركة.
وفي الوقت ذاته، اضطررت للامتثال للمتنمّرين الصبيان خارج سلطة المدرسة. وعندما بُني السور حولها، وجدت صبيّان بانتظاري خارج بوّابتها لضربي وركلي إلى أن أتمكّن من الهرب. أصبحت المدرسة سجنًا للفكر والجسد، في سياق حيث لا تكون فيه الفضاءات العامّة والخاصة تحت سيطرة الحكومة فحسب، بل من خلال الأعراف والتقاليد الاجتماعية القائمة على النوع الاجتماعي كذلك.
في شباط 2011، وخلال احتجاج صامت وإضاءة شموع في ساحة في مدينة دمشق القديمة، بدأ رجال الأمن التقاط الصور لتحضير ملفّات لنا وفتح التحقيقات التي قد تفضي إلى الاعتقال، ثم اختفوا جميعًا. كان تكتيكًا معروفًا، لكنّه يثير القلق. بعد عشر دقائق، أصبحنا محاطين بعناصر الأمن بالثياب المدنيّة، الذين ما لبثوا أن هاجمونا بقبضاتهم وأقدامهم وأحزمتهم. أنقذني صديق، وهرولنا سريعًا في شوارع المدينة القديمة وتمكّنا من الهرب. وصلنا إلى نقطة الالتقاء الأصلية ووجدنا بعض المتظاهرين، فقرّرنا المواجهة وتقديم شكوى في مركز الشرطة القريب ضد المهاجمين الذين التقطنا صورهم. كان ذهاب الرجال مخاطرة، فاخترنا أربع نساء لدخول المبنى وطلب فتح ملف بالقضية. أمرنا الضبّاط بالانتظار في الرواق، وكان رجال الشرطة يقفون أمامنا ويحدّقون، ومن وقت لآخر يفتحون أحاديث تافهة للسؤال عن سبب الاحتجاج ولماذا نتدخّل كنساء في السياسة والتظاهرات التي قد تتحوّل إلى العنف، ملمّحين إلى ضعفنا الجسديّ و"غياب الحيلة" أو القدرة على الدفاع عن النفس. قاموا بإسداء النصائح بتجنّب المشاكل والالتزام بأعمال "النساء". ووصل الأمر إلى تذكيرنا بما حصل في مصر، مشيرين إلى التحرّش الجنسيّ الممنهج ضد النساء خلال الاحتجاجات هناك. ومع مرور الوقت، ازدادت رهبة المكان، وبدا كل شيء شاحبًا وبائسًا، الزوايا والجدران والناس. أخيرًا، وصل رجلان ضخمان وقاما بحذف الصور التي أخذناها. حاولت إحدى النساء الاعتراض فتمّ اقتيادها إلى المكتب، وانتظرناها في الخارج. سمعنا صوت صراخ غاضب وتهديد بالقتل، تلته صفعة عنيفة. ثم فتح الرجلان الباب وخرجا ونظرا إلينا وغادرا. ملأ الصمت الثقيل المبنى بأكمله. كنت قد تعرّفت للتو على نوع جديد من الرعب، وهو مواجهة نظام استبداديّ وحشيّ، كامرأة.
لاحقني عنصر أمن لمدّة شهر بعد ذلك، وتبِعَني كالظلّ، لكن خوفي من التعّرض للهجوم والضرب لم ينقطع، إلى أن غادرتُ البلاد للحصول على زمالة في الخارج. في ليلة المغادرة، شاهدتُ الأمن يختطف رجلًا ويجبرونه على الركوب في سيارة. قاوم بكلّ قوّته وطلب المساعدة من المارّة، بمَن فيهم أنا. حاولتُ التوجّه نحوه، لكن أحد الأصدقاء أمسكني من ذراعي، وهو يتمتم بشدّة أنّه لا يمكنني فعل أيّ شيء، وأن الطائرة ستغادر من دوني، وأصرّ على اصطحابي إلى المنزل.
تُظهر حادثة صفّ المدرسة أن الحقّ في التعليم كان مشروطًا بامتثالي – وحصري – في مكان معيّن. وبنفس الطريقة، تم تقويض الحقّ في سلامة الأطفال وحمايتهم من خلال تصميم المدرسة وتسييجها. وبقدر ما كانت المدرسة تعمل في ظلّ خوف تامّ من النظام، فقد كانت أيضًا صورة مصغّرة له. تمّ تصميم استخدام العقاب البدنيّ لإعداد التلامذة كمواطنين/ات مستسلمين/ات. أمّا مفهوم "حقوق الإنسان"، حتى بتعريف الأمم المتحدة، فقد غاب تمامًا – تدرَّبنا لنصبح خدمًا منضبطين للدولة ومؤسساتها.
أوضحت تجربة المشاركة في الاحتجاجات وآليّات التعامل في مركز الشرطة طبيعة التفاعل مع ممثّلي الدولة الذين يدّعون الحماية أثناء توجيه التهديدات المباشرة. وكانت روايات السجن والتعذيب التي ذوّتناها قد أتت من قصص الرعب في مخافر الشرطة، حيث يدخل الناس ولا يخرجون. لكن الشرطة، التي يُفترض أنها "في خدمة الشعب"، كانت مصدرًا لانتهاكات حقوق الإنسان التي تخدم النظام.
ليست المرّة الأولى التي شهدتُ فيها سيطرة الدولة على الفضاءات. قبلها في العام 2010، وأثناء مشاركتي المدنيّة العامّة، كنت قد انضممت إلى مبادرة مستقلّة بقيادة أصدقاء لمؤازرة المجتمعات النازحة داخليّاً3 في مخيّمَي سعسع وكناكر، وتوفير التعليم لأطفال هذه المخيمات الواقعة في ضواحي دمشق. فقد كانوا مضطرّين للمشي لمسافات طويلة إلى أقرب مدرسة، حيث يعانون أيضًا من وصمة العار، ممّا جعل العديد من الأهالي متردّدين في السماح لهم بالذهاب إليها. اعتمدنا على التبّرعات الصغيرة من الأصدقاء وأفراد آخرين للمبادرة بإنشاء مدرسة في المخيّم، توسّعت لتشمل حملات العيد والشتاء، بالإضافة إلى معرض للتصوير. قام رجال الأمن بملاحقتنا في عدد من الزيارات طالبين منّا إبراز بطاقات الهويّة، كما اتُهمنا بالعمالة لإسرائيل وبضعف حسّنا القومي لأن الصور التي عرضناها تشوّه صورة سوريا. وعندما أدركوا إصرارنا، حاولوا الضغط على سكّان المخيّم لعدم الترحيب بنا، مهدّدين بإزالته من أراضي "الحكومة". وهذا ما كان، ففي الزيارة التالية لم نجد سوى مساحة فارغة. هُدم المخيّم، وطُلب من الناس المغادرة. عدنا أدراجنا إلى المنزل بصمت ووجوم، فقد أوقفوا هذا العمل الاجتماعي البسيط والبنّاء كما أوقفوا غيره، من دون سبب إلّا لتأكيد الهيمنة.
يزداد الموقف إشكاليّة من الناحية الحقوقية، نظرًا لأن مشروع حقوق الإنسان المهيمن والمتجذّر في المركزيّة الأوروبيّة الغربيّة ومفهوم الملكيّة ينبذ أشكال الاستخدام المشترك كشكل قانونيّ مستقلّ لإشغال الأراضي ويختزلها إلى "ملكيّة مؤجّلة" أو فضاء بلا قانون أو استخدام، وهذا "يمثّل الحالة الطبيعية التي تتميّز بغياب القانون بشكل عام وحقوق الملكية بشكل خاص" (شاشيريتر، 2014: 231). بعبارات أخرى، على المرء أن يمتلك القدرة على شراء عقار ليبقى على قيد الحياة في وطنه أو ليتمتّع بالاعتراف القانوني في بلد آخر. وتشكّل عبارة "تعسّف" أحد المفاتيح، فالمادة 17 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لا تغطّي الأشخاص الذين يفشلون في الاستمرار في النظام الرأسمالي أو الذين تكون حياتهم مشروطة بالسوق التي تسيطر عليها المصارف والحكومات. ينظر القسم التالي في الضرر الذي تُلحقه هذه الهياكل بحقوق الإنسان، أو خطاب الأمم المتحدة المهيمن حول حقوق الإنسان، بهدف فتح مساحات لمناقشة اتفاقية (اتفاقيات) جماعية بديلة تتبنّى نموذج عدالة ذي جوهر هادف وشامل وفعّال.
تجارب شخصيّة مع الفضاء والسلطة عبر الحدود
منذ العام 2011، عشت في بلغاريا وفي مصر ثم في تركيا ثم بولندا والمملكة المتحدة، وزرت دولًا أخرى. واجهت في رحلتي سلسلة من النضالات الناتجة عن وضعي الشخصي وعن سياسات الحدود المُعتمَدة التي تتعارض بشكل صارخ مع ادعاءات حقوق الإنسان. سافرت كامرأة تحمل جواز سفر سوريّ وكشخص لا يتبع الأفكار النمطيّة حول ما يجب أن يكون عليه السوريّ. فالعلاقة بين إنكار الحقّ في حرية التنقّل والانتهاكات الأخرى تظهر عيوب خطاب حقوق الإنسان من أساسه، الذي يقوّضه وجود الدول القومية التي تنشر التحيّز والظلم.
عندما لم أستطع العودة إلى سوريا في أواخر العام 2011، توجّهت إلى مصر حيث كانت الروح الثورية لا تزال قويّة. لم أخطط لإقامتي، لكنني تعرّفت على فتاة في ميدان التحرير في القاهرة حيث أمضيت ليلتي الأولى، عَرضت أن أبقى معها حتى أجد مكانًا للإيجار. في الأشهر الأربعة التالية، رافقتني وأصدقائي المصريين الجدد في الشارع والتظاهرات: غنّينا ورقصنا وواجهنا الغاز المسيّل للدموع والتحرّش الجنسيّ. كان المشي في شوارع القاهرة يعني توقّع التعرّض للانتهاك الجسدي في أية لحظة، وتجاهل ردّات الفعل على ذلك، حتى الصراخ بصوت عالٍ. عشرات من المتفرّجين لم يقوموا بأي فعل ولم يقولوا أيّ شيء لوقف الإساءة، والأسوأ من ذلك أنّهم قد يشاركون التعليقات أو يعبّرون عن دهشتهم وانزعاجهم من صراخي أو محاولاتي كبح المتحرّش.
بدأتُ أتردّد في الخروج لوحدي، أو السير في شوارع مزدحمة، أو ركوب قطار أو حافلة دون مرافقة. فالمناطق التي لم تصمها رأسمالية الشركات الخاصة (مثل مراكز التسوّق الراقية) والأماكن العامة الأخرى لم تكن صديقةً للمرأة، لذلك، وجب على النساء امتلاك سيارة أو البقاء في المنزل وانتظار رجل العائلة ليرافقهن.
أتت والدتي للزيارة في نهاية صيف العام 2012. وبعد يومين من وصولها، وبينما كنّا نسير باتجاه النيل، قام رجلان على دراجة نارية بسحبها في الشارع، وسحبي معها. أمسكا بحقيبتها وأجبراها على تركها. انتهى بها الأمر بكدمات شديدة ولا وثائق سفر. انتُهكت أجسادنا، وكذلك حركتنا ووضعنا القانوني، مرّة أخرى. أثناء تقديم الشكوى في مركز الشرطة، أخبرَنا الضابط المسؤول أنّه كان حادثًا فرديًا وأن الوضع في سوريا أسوأ، في مقارنة تهدف إلى تحجيمنا كـ"زائرات" سوريات. لم تكن الشرطة المصريّة "في خدمة الشعب" أيضًا. وبغياب الوثائق، اختفى خيط الأمل الضئيل للغاية في العثور على عمل. حاولتُ الاتصال بمنظّمة لحقوق الإنسان لاستكشاف إمكانيات بقائي في مصر بشكل قانوني. وكان خياري الوحيد هو طلب اللجوء – الوضع الذي كنت متردّدة في السعي إليه، خاصة وأن مصر أظهرت إخفاقًا كبيرًا وعدم قدرة على حماية مواطنيها، فما بالك بالسوريين/ات.
كانت السفارة السوريّة في ذلك الوقت امتدادًا للنظام، فقامت بحرمان عدّة ناشطين/ات سوريين/ات من خدماتها أو الاحتفاظ بوثائقهم/ن لفترات طويلة. لكن خياراتي كانت محدودة، فتوجّهت إليها لتقديم طلب جواز سفر جديد. ملأت الطلب وانتظرت. بعد عشر دقائق، نودي علي لمقابلة القنصل الذي أمطرني بوابل من الأسئلة عن حياتي، وتساءل عمّا تفعله فتاة من دون عائلتها في مصر. شعرتُ بالغضب لأنه سمّاني "فتاة"، وأوضحت أن هذه ليست المرّة الأولى التي أسافر فيها وحدي ولن تكون الأخيرة. كان عليّ كتابة أسماء البلدان التي قمت بزيارتها قبل أن يكشف أن جواز سفري بحوزته. وقبل أن يعيده، ألقى بمحاضرة عن المؤامرة ضد سوريا، ونبّهني، لأنه "مهتمّ بأمري" كما ادّعى، ألّا أتواصل مع المعارضة. لم أكن بحاجة لهذه النصيحة، فأنا لم أكن أثق بالمعارضة التي بدت حينها كمجرّد مؤسسة سياسية هشّة وغير فعّالة.
كان عليّ العودة إلى السفارة قريبًا لتجديد جواز سفري لأربع سنوات إضافية كلّفتني 400 دولار في ذلك الوقت، وهي أغلى وثيقة جنسية على حد علمي – المبلغ الذي لا يستطيع المواطن السوري العادي تحمّله في وقت السلم، ناهيك عن وقت النزوح القسري والبطالة والحرب. بالنسبة لي، كانت هذه وثيقة – قطعة من الورق – لم أقم باختيارها، ولم تسمح لي بالذهاب إلى أي مكان من غير تأشيرة تكلّف في كثير من الأحيان ثروة أخرى ويصعب للسوريين الحصول عليها.
إن منظومة حقوق الإنسان لا تقوم بمساءلة النظام العالمي المهيمن الذي يدّعي المساواة في الوصول إلى الفرص للجميع ولكنّه يفرض انتهاكات جسيمة للحقّ الأساسي في حرّية الاختيار، والحقّ في الجنسيّة هو مثال على هذا الوضع المفروض على كلّ إنسان منذ لحظة الولادة. في المحصّلة، يُستَبعد الذين واللواتي لا يعرّفون/فن أنفسهم/ن بهذه "الحقوق" من المشاركة والتمثيل السياسي الكامل، بشكل ضمني أو صريح. وبالتالي، يصبح السؤال المطروح، كما لحظ عزيز (1999)، هو من الذي يقرّر حقوق الإنسان ويتقبّلها وكيف؟ ويقول إن الأمم المتحدة، بسبب تمثيلها للدول لا للشعوب، هي بحدّ ذاتها نظام غير متكافئ وهرميّ، وتصبح شرعيّة النظام العالمي الحالي موضع تساؤل حيث أنّ معظم الحكومات في جنوب العالم نادرًا ما تتحدّث باسم الأشخاص الذين تعلن تمثيلهم (عزيز، 1999).
بقدر ما قد تبدو الفكرة تافهة وبديهية، لكنني أستحق، وكثيرين/ات غيري، أن أتمكّن من ممارسة حقّي الأساسي في الاختيار الحرّ. يجب ألّا يتمّ تعيين انتمائنا إلى دولة قومية محدّدة عند الولادة، وأن تتوفّر الخيارات الأخرى للتنظيمات الاجتماعية والحركات الشعبية خارج الدولة القومية ونظام تأشيراتها.
بعد الإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي في صيف العام 2013، علا الخطاب البغيض في وسائل الإعلام المصرية وفُرضت سياسات أكثر صرامة تجاه السوريين/ات، بما في ذلك مطالبتهم بالحصول على تأشيرات لدخول مصر. أصبح من الصعب التفكير في المغادرة دون حصولي على وظيفة في مكان آخر، حتى لا ينتهي بي الأمر بأن أكون عالقة ومحبوسة في بلد جديد. هكذا، في أواخر العام، وجدت وظيفة في تركيا وانتقلت إليها. سألني الضابط الذي قابلني للحصول على تصريح الإقامة عن حياتي وعائلتي وإذا ما كنت مع الأسد أو المعارضة، وأدهشني بإتقانه اللغة العربية. تساءلت عن علاقة ذلك بوضعي، فأجاب أنه مجرد سؤال. لكن تصريح إقامتي كان بين يديه وكان يمتلك السلطة للسماح لي بالبقاء أو بإبعادي. كيف سأتأكّد من صحّة جوابي؟ ولماذا عليّ أن أكون إمّا مع الأسد أو من أنصار المعارضة؟ ماذا عن شيء مختلف تمامًا؟ ماذا عن الثورة التي يقودها الناس على الأرض؟ لم أكن مهتمّة بمناقشة السياسة معه، ولا هو من النظرة البادية على وجهه. كنت أدري بحقّي في تشكيل آرائي السياسية وبالحقّ القانوني في الاحتفاظ بها لنفسي، وهكذا فعلت.
عند إصدار بطاقة إقامتي بعد شهر ونصف، علمت بضرورة إبلاغ الشرطة بتحرّكاتي إلى أي مدينة في تركيا إذا كانت إقامتي ستمتدّ إلى أكثر من ثلاثة أيام – وهذا ينطبق على المواطنين/ات السوريين/ات كافة. كنت قد خضعت لإجراءات مماثلة في المملكة المتحدة، حيث طُلب منّي الذهاب إلى مكتب استقبال قسم العلوم الاجتماعية في الجامعة لتسجيل حضوري أسبوعيًا، وإبلاغ الجامعة بخطط السفر. لم تُفرض هذه السياسة على أي من زملائي الغربيين. لكن اهتمامات الطلاب غير الغربيين وعزمهم على مواكبة الدورات الدراسية، لدرجة دفع تكاليف أعلى بكثير من أي مواطن بريطاني أو غربي، كان موضع شكّ دائم ويوجب مراقبة تحرّكاتهم بحكم حملهم لجوازات سفر معيّنة. جاءت هذه الطريقة في التحكّم بحركتي في المملكة المتحدة لتشكّل إهانة إضافية كانت قد تؤدّي إلى تفويت بداية الفصل الدراسي بسبب عملية الحصول على التأشيرة أثناء وجودي في بولندا – وهي مسار آخر لم يكن من السهل ارتياده.
تعلن السفارة البريطانية عبر موقعها الإلكتروني إلى أن الإجراءات المتعلقة بالتأشيرة تستغرق ما يصل إلى أسبوعين. تقّدمت بطلبي عبر الإنترنت في 11 آب/أغسطس 2014، كما سلّمت نسخة مطبوعة إلى السفارة في وارسو بعد أسبوع. وعلى الرغم من أنني أجريت مقابلة عبر الهاتف، مجيبة عن كمّ هائل من الأسئلة البيروقراطية (معظمها أسئلة أجبت عليها في الطلب الذي تقدّمت به وأرفقته بنسخ مطبوعة للوثائق ذات الصلة)، لم أعرف النتيجة. كما لم أتمكّن من العثور على رقم اتصال للتواصل مع السفارة والاستفسار عن وضع تأشيرتي، فذهبت شخصيًا إلى السفارة في وارسو، أي ساعتين بالقطار من لودز، حيث أقيم. وعندما وصلت، لم يسمحوا لي برؤية الشخص المسؤول، بل طلبوا مني الانتظار، ثم عاد الحارس ليخبرني أنهم لم يقرّروا بعد، مضيفًا أن ذلك لن يستغرق وقتًا طويلًا.
في تلك الفترة، كانت صلاحية عقد إيجاري في لودز قد انتهت، ولم يكن بوسعي الانتقال لأنني خططت لترك البلد فور حصولي على التأشيرة. لم يعد لدي مكان أبقى فيه، فنمت على كنبة إحدى الصديقات. مرّ وقت طويل ولا أخبار من السفارة، فذهبت مجددًا إلى وارسو للاستعلام شخصيًا. هناك، تكرّر سيناريو الزيارة السابقة، وقيل لي أن أتوقّع قرارًا في اليومين المقبلين. مرّت 10 أيام، ولا قرار بعد. حينها، كنت قد انتقلت إلى وارسو للإقامة مع صديقة أخرى. لم يبق أمامي سوى أسبوع لانتهاء مدة التمديد الثاني والأخير للتسجيل في الجامعة. عندئذ، قررت الذهاب إلى السفارة والبقاء هناك إلى أن يسمحوا لي بمقابلة الشخص المسؤول. أخبرني الحارس أن القرار لم يتّخذ بعد وأنه علي أن أعود إلى المنزل، لكن أصرّيت على رؤية المسؤول/ة والتقدم بشكوى، فسمح لي بالدخول.
أنا: أريد الاستعلام عن وضع تأشيرتي
المسؤولة: هل تلقّيت رسالة إلكترونية من قبلنا؟
أنا: كلا، لهذا جئت إلى هنا. لقد مرّ 60 يومًا منذ أن تقدّمت بالطلب.
المسؤولة: نعم، أحيانًا تتطلب العملية وقتًا أطول.
أنا: لكن هذا الوقت أربع مرات أطول من الوقت اللازم. إنّي أتغيّب عن محاضراتي.
المسؤولة (بعصبية): ليس لدي أي من وثائقك. لا أعرف من أنت ولماذا تجلسين هنا غاضبة.
اختفت 10 دقائق، ثم عادت واعتذرت عن التأخير مع ابتسامة.
ثم شرحت: التأخير بسبب المكتب في لندن، هذه ليست غلطتنا. ولكن علمت أن لديك مقابلة يوم الجمعة بعد الظهر.
أنا: هذه المرة الأولى التي أسمع فيها عن هذا الموعد. لما لم تخبروني عن المقابلة قبل ذلك؟
المسؤولة: بسبب الأوضاع السياسية، كما تعلمين.
أنا: أعرف أن الكثير من السوريين/ات، بمن فيهم أختي، يذهبون إلى المملكة المتحدة من سوريا وقد أصبحوا فعلًا هناك. ماذا تقصدين؟
المسؤولة: اكتشف المكتب في لندن أن لديك ارتباطات.
أنا: أي ارتباطات؟
المسؤولة: لا أستطيع أن أشرح لك، فهذا ليس ضمن نطاق مسؤولياتي. ستعلمين بكل شيء الجمعة. لكن لا تقلقي، المسألة ليست متعلقة بجريمة.
أنا: لست قلقة. أعرف أني لم أفعل شيئًا!
المسؤولة، فإذن، هل ستجرين المقابلة يوم الجمعة؟
أنا: هل لدي خيار آخر؟ (ابتسمت) سأحضر.
قالت إنّني قد أحصل على التأشيرة في اليوم ذاته، ونصحتني بالتحدّث بلطف مع المستجوِب. أمضت بضع دقائق وهي تشرح أني سأقابل امرأة، ليس رجلًا، وأنها ستكون لطيفة وستحاول مساعدتي، لذا عليّ أن أكون لطيفة. فكّرتُ خلال اليومين التاليين في المقابلة، ما مدى خطورتها؟ وما هو نوع التورّط الذي يتحدثون عنه؟ لسخرية القدر، لم تختلف هذه المقابلة عن تلك التي أجريتها عبر الهاتف. سألوني عن الذين سأعمل معهم في المستقبل، الراتب الذي أتوقّع، وإذا ما كنت بدأت البحث عن عمل، ثم أخبروني أن القرار سيُتخذ في منتصف الأسبوع القادم. رفضت شارحة أن موعد التسجيل النهائي في الجامعة سيحلّ بعد أيام قليلة، وأن الجامعة مدّدت لي الفترة بشكل استثنائي، وأنني أتغيّب عن محاضراتي. تركت السفارة وأنا أشعر بإرهاق شديد وقلت لنفسي أن الأمر انتهى – فاتني الفصل الدراسي الأول. بعد ساعة، تلقّيت اتصالًا من السفارة لإبلاغي بأن تأشيرتي أصبحت جاهزة، ويمكنني استلامها قبل الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر. هذا يعني أن لدي 40 دقيقة لأعبر وارسو وأصل إلى السفارة.
فور وصولي إلى لندن، أوقفوني على المطار وعاملوني كمشتبه بها. بينما كنت أنتظر، مرّ ما يزيد عن 500 راكب/ة عبر تدقيق الجوازات وهم ينظرون إليّ. اختبرت مشاعر القلق والحيرة إلى أن غرقت في يأسي. ثم رأيت طفلًا صغيرًا محجوزًا في المكان ذاته مع عائلته ذات البشرة الملوّنة. كان الطفل يتخطّى باستمرار حدود المساحة التي فٌرض علينا الالتزام بها، إلى أن أعاده الضابط ووبّخ والديه (أحدهما يعاني من كسر في ساقه)، طالبًا منهم مراقبة الطفل باستمرار. استنتجت أنهم ينتظرون منذ وقت طويل، وأن الطفل استنفذ قدرته على البقاء محصورًا في مساحة لا تزيد عن مترين مربّعين، فقد بدأ بالبكاء عندما أعادوه إلى الغرفة .عندها، بدأت أفكّر بهذا الطفل وعلاقته بالمكان. بدا أنه لم يدرك سبب وجوده في هذا المكان. في هذه اللحظة، تمنّيت لو كان بمقدوري أن أهرب، ولكن أدركت أن مستقبلي، إن لم تكن حياتي، على المحكّ. من أجل تهدئته، أمضيت الدقائق القليلة المتبقّية ألاعبه إلى أن ناداني رجلَان. مرّة جديدة، كان علّي أن أشارك تفاصيل حياتي وكيف ولماذا سافرت إلى أماكن متعدّدة، حتى أنهم سألوني عن زيارتي السابقة إلى المملكة المتحدة في العام 2009.
لم أجد حتى الآن تفسيرًا للغز تأخّر تأشيرتي، ولكن ما حصل معي كشف مدى تحكّم موظفي الدولة بحرية تنقّلي – حتى ولو شرعنها قبولي في الجامعة والمجال الأكاديمي. فمصادرة جواز السفر (السفارة السورية في القاهرة والسفارة البريطانية في وارسو) عند التقدّم بطلب التأشيرة، يحرم صاحب/ة الوثيقة من التنقّل بأمان، ويعرضه/ا لخطر الاحتجاز. يذكّرني منعي المتكرّر من دخول السفارة والتحدّث إلى الشخص المسؤول، وإبقائي على الباب بينما أفاوض الحارس، بما يسمّيه فوكو هندسة القمع – من أجهزة الدولة التي تتحكّم بالتنقل إلى أدنى المستويات. وبينما سُمح لي في بولندا بحرية التنقّل، كانت حرّية تنقّلي في المملكة المتحدة عرضة للرقابة والسيطرة والتوثيق من خلال زيارات أسبوعية تشبه تلك التي يقوم بها المجرمون السابقون المجبرون على زيارة ضبّاط إطلاق السراح غير المشروط بشكل روتيني.
الدولانيّة:4 الحياة الاجتماعية كـ"آخر"
كامرأة تحمل الجنسية السوريّة، لم يكن الحدّ من حرية تنقّلي هو صراعي الوحيد، فالتفاعلات الاجتماعية كانت محبطة إلى حدّ كبير، وغالبًا ما تكون على صور نمطيّة استشراقيّة ودعاية الإعلام السائد. في البلاد التي زرتها، خاصة الأوروبيّة منها، شهدت على نقاشات كثيرة حول الحرب وجانبها اللوجستي، ولكن لم أسمع أيّ تحليل عميق حول تجارب الحرب المُعاشة، أو أشكال الظلم العالميّة التي تنتجها. هذه السرديّات تترك انطباعًا لدى الناس في الغرب بأن الحرب في سوريا ما هي إلا حربًا أخرى على الإرهاب. وهناك أيضًا إشكالية في طريقة طرح بعض الباحثين/ات للخطابات الإنسانية والنسويّة المتعلّقة بسوريا (كاييتانا، 2013؛ ميتشل، 2013؛ أبو اللغد، 2002؛ بوار، 2007)، والتي تؤدي إلى تعزيز الصورة عن السوريين/ات كعديمي الميول السياسية، مما يغيّب تشابك وتعقيد الصراع وينكر سيادة الناس على أنفسهم/ن، أو، يقمعها. بالتالي، لا يُنظر إلى السوريين/ات المهجّرين/ات قسريًا كفاعلين/ات، ولا حتى ضمن (لا) علاقتهم/ن مع الدولة الأمّة والحدود الدولية المعترف بها.
باعتبارهم/ن "الآخر الشرقيّ"، يُنظر إلى المهجّرين/ات قسريًا كإرهابيين – فاعلين (الرجال غالبًا)، أو ضحايا – أشياء (النساء والأطفال غالبًا). يؤكّد تصوير السوريين/ات كضحايا أو شياطين على استمرارية ما اعتبره سعيد (1977: 3) "الأسلوب الغربيّ للسيطرة وإعادة الهيكلة، لامتلاك السلطة على الشرق". أسمع يوميًا عبارات كـ "الحرب ليست مسألة شخصية" أو "مسكينة أنت" أو "مذهل أنك لا تبدين سورية"، أو يسألونني "أنت مع الأسد أو مع داعش؟" و"كيف تقدرين على البقاء في أوروبا؟" أمضيت وقتًا طويلًا أشرح الجانب غير العنيف للصراع السوري وأبيّن المعطيات والوقائع السياقية.
تحوّلت حياتي العاديّة إلى جلسة توعية مستمرة. وقد صادف أن لون بشرتي وأسلوب حياتي ينسجمان مع المعايير النمطية الأوروبية. لكن، كان أي ذكر لسوريا يحمل وصمة وتمييزاً – أو كان بمثابة مؤشّر للتوقف عن متابعة الكلام. شعرتُ أنّي خيّبت ظنّ الناس في بريطانيا، فاحتاروا كيف يتابعون حديثهم بعد أن وضعت حدًا لتساؤلهم وكشفت أني لست فرنسية (كما توحي لكنتي). عندئذ، تحوّل انبهارهم بي كواحدة منهم إلى اعتباري "الآخر". بالنتيجة، وجدت نفسي عالقة ضمن حدود تلك السرديّات حتى أعدتُ إنتاجها وأكّدتها. يتشابه هذا مع حالة الجزائريين المستعمرين كما يناقش فانون في "معذّبو في الأرض" (1963)، حيث يقول:
بصفته إلغاء ممنهج للشخص وتصميم حادّ على إنكار خصائصه الإنسانية، يفرض الاستعمار على الذين/اللواتي يسيطر عليهم/ن مساءلة أنفسم/ن باستمرار "من أكون في الواقع؟" [...] فأنت مجبر على الوقوف ضد نفسك. (250؛ 309)
في حالتي، لا أجد وقتًا لأكون كما حاولت تصوّر هويّتي التي أنتجتها السرديّات المسيطرة. أدركت لاحقًا عدم جدوى الأمر وفهمت أنه بما أن القوة وضعية (مفروضة وممارسة من الخارج)، فهي أيضًا عملية تفاعلية.
الابتعاد عن سوريا يعني السلامة الجسديّة إلى حدّ ما، ولكنّه أيضًا انعدام الرفاه العاطفيّ والفكريّ. لقد تأثّرت كافّة تفاعلاتي الاجتماعية مع العائلة والأصدقاء (بصرف النظر عن جنسيتهم/ن) نتيجة نظام التأشيرة وقيود حرية التنقّل. آلمني الغياب عن المناسبات الحميمة، وعدم التمكّن من التواجد مع أصدقائي لدعمهم/ن عندما احتاجوا إليّ. تقدّم أهلي وأصدقائي في العمر، منهم/ن من تزوّج أو تطلّق، ومنهم/ن من حقّق إنجازات مهنية – كل ذلك وأنا مجرّدة من التبادل الإنساني البسيط.
بالنتيجة، رافقتني مسألة الهويّة خلال رحلتي من مكان إلى آخر. لكن بقائي في مصر منذ العام 2011 حتى العام 2013 والشهرين الذين أمضيتهما من دون وثائق شكّلا نقطة تحوّل في تفكيري لناحية نظرتي إلى نفسي والعالم الذي أنتمي إليه. كما غيّرا مفهومي حول حقوق الإنسان التي يُزعم أنها ممنوحة لجميع البشر، لكن تجربتي المباشرة أثبتت العكس. في الحقيقة، شعرت أن لا قيمة لي، وهو شعور تعاظم في داخلي مع كل مسألة متعلقة بالتواصل مع المؤسسات الرسمية ومن ضمنها الحوالات المالية التي كانت عائلتي ترسلها لدعمي. ومع مرور الوقت، عبَرت ملايين الصور في ذهني مرارًا وتكرارًا: الشاب الذي تركته وحيدًا يواجه الاختطاف وربما التعذيب – لا زلت أفكر إذا نجاـ الدين الهائل الذي تكبّدت، والأسوأ، الوحوش في الطرقات التي لم ترَ في سوى جسدي.
عندما وصلت إلى المملكة المتحدة، احتجت إلى ثلاثة أسابيع لأتمكّن من الابتسام من جديد. لم أرغب بالكلام أو رؤية أحد. أمضيتُ الشهرين التاليين في المكتبة أحاول التعويض عن ما فاتني من قراءات ومهام دراسية. فالعيش والتصرف بشكل طبيعي يتطلب قوة وطاقة إيجابية لم يكن بمقدوري الحفاظ عليها طيلة الوقت. الهواء ثقيل ومحمّل بالفخر الاستعماري. الفكرة الأكثر رعبًا كانت استمرار الحرب لسنوات وسنوات – سنوات سأقضيها بعيدًا عن عائلتي، أواجه المستقبل المجهول. يكتب ميلان كونديرا في روايته "كتاب الضحك والنسيان" (1979): "إن صراع الإنسان ضد السلطة هو صراع الذاكرة ضد النسيان". لكنْ، يستمر الصراع وتخونني الذاكرة، فأجدني وحيدة مع صور مبعثرة وعشوائية للّحظات الأكثر ظلمة في وجودي.
فكّرت في كلّ شيء، بصرف النظر عن القوّة التي لديّ، أو التي قرّرت امتلاكها: عندما علقت في مكان وتعرّضت للتحرّش الجنسي كل يوم؛ عندما تعرّضت لإجراءات ظالمة ومرهقة في أثناء طلب التأشيرة؛ عندما عوملت مشتبه بها، كعبء، كإنسان غير مرحّب به؛ كل ذلك حوّل شعوري حيال سيادتي على ذاتي وأثّر عميقًا في ثقتي بنفسي ونظرتي إليها. حكايتي، وحكاية كثيرين/ات غيري من الجنوب العالمي، ليست رواية شخصية أو معاناة فردية. بل هي معاناة يجب التعامل معها كمسألة متعلقة بالحقوق. المعاناة التي، في حالتي، أو في حالة كثيرين/ات من السوريين/ات تفاقمت خلال عقود، وتعاظم تأثيرها خلال السنوات الأخيرة في ظل غياب الاعتراف بالحقوق المفترض أنها عالمية. إنها معاناة سياسية ومضاعفة وعميقة للغاية، تحديدًا لجهة القيود على التنقّل. باختصار، أُرغمت، بسبب حرماني من حقوقي الأساسية، على التعرّض لمواقف انتهكت حقّي الإنساني: التحرش الجنسي، البطالة، الاستغلال في العمل، الحرمان من الدراسة، الوصمة، ومخاطر متعلّقة بالصحة النفسية.
ملاحظات ختامية
أدرك ناشطو/ات حقوق الإنسان في سوريا وحول العالم أن التحرير سيظلّ مستعصيًا إلى أن تتمّ مواجهة الهيمنة والسيطرة اللتان تعزّزان القمع الداخلي والخارجي، لأنهما يعملان هكذا، بالتوازي مع بعضهما البعض (عزيز، 1999).
حسب عزيز (1999) تملك التصورات البديلة للحقوق والناشئة من "العالم الثالث" الإمكانيات اللازمة لتفعيل مفاهيم عالمية صادقة، كما أنها تشمل وجهات نظر متنوّعة تتطرّق إلى اللامساواة المتوارثة التي تضمن للغرب موقعه المهيمن على السلطة والامتياز. لأن كل نظرة بديلة عن الحقوق تُنتج في ظل الديناميكيات المعقّدة للمساحات والجغرافيا. كما يوضح ميتشل (2003: 81):
المساحة والمكان والموقع ليسوا مجرد مسرح للمبارزة على الحقوق، بل ينتجون – وفي الوقت ذاته يساهمون في تشكيل – الصراعات على الحقوق. [...] يجب ممارسة تلك الحقوق في مكان ما، وأحيانًا علينا إنتاج هذا المكان عبر مصادرة/التنازع على بعض من مساحته وتحويل معناها واستخداماتها – عبر خلق مساحة تُمارَس وتوجد فيها الحقوق.
سعت هذه المقالة بشكل أساسي لاستكشاف السبل التي تظهر كيف أن المبادئ والقيم الجيّدة التي يتم التعبير عنها في الخطاب المهيمن في مجال حقوق الإنسان، ما هي في الواقع إلا قواعد وُضعت للحفاظ على النظام الهرمي الحالي وتعزيزه، في خدمة الدولة – الأمّة القوميّة النيوليبراليّة الرأسماليّة البطريركيّة. يمكن القول إن مثل هذا الخطاب يصبح عديم الجدوى، لأنه لا يشكّك بالنظام العالمي الحالي ويفشل في مواجهته وانتهاكات حقوق الإنسان التي يسمح بها ويعتمد عليها. يوضّح التحليل النقدي لعلاقات القوة العالمية داخل النظام الحالي والخطاب المهيمن في مجال حقوق الإنسان، إلى جانب تحليل التجربة المعاشة للشعوب في الجنوب العالمي، أنه لا يوجد أمر عالمي أو متساوٍ بشأن حقوق الإنسان. ليس المقصود أن بعض هذه الحقوق ليست شرعية أو فعّالة في بعض الأحيان، بل يأتي للتأكيد على الضرورة الملحّة وأهمية إعادة النظر في اتفاقيات حقوق الإنسان ومراجعتها وتحسينها. يشكّل مقالي دعوة من باحثة أخرى من الجنوب العالمي للنظر في علاقات القوة التي تقوم عليها خطابات حقوق الإنسان المعاصرة وإعادة تشكيلها كاستجابة على ذلك.
الحقوق، باعتبارها أهلية أخلاقية وقانونية لشيء ما، ليست حقوقًا عندما لا تنعكس آثارًا إيجابية على حياة الناس أو تسهم في ازدهارهم. إن أي مجموعة من القواعد التي تحدّ من خيارات الأشخاص فيما يتعلّق بالكينونة وكيفية العيش هي قمعية بحدّ ذاتها، وحتى عندما تكون إيجابية، فإن الأحكام (مثل الحقّ في التعليم، والحقّ في العمل، وما إلى ذلك) التي لا تشكك في هياكل السلطة، أو تشجّع البدائل الإبداعية والتفكير النقدي، لا فائدة منها. في مثل هذه الحالات، يجب التخلّي عن تلك القواعد واستبدالها بمجموعة من الاتفاقيات الأكثر فعالية وتنوّعًا وشمولًا حول كيفية تنظيم وإدارة العلاقات الاجتماعية. كما يجدر أيضًا الانتباه إلى أن البدائل المفتوحة والمرنة دائمًا خشية أن تصبح بدورها قديمة وغير فعّالة. بالتالي، يدهشنا الاستمرار في فرض إطار حقوق الإنسان المهيمن، لا بل استخدامه أيضًا كآلية لإساءة معاملة الشعوب، على الرغم من مرور أكثر من نصف قرن من التقصير المثبت والحصرية واللامساواة.
ليس النقاش هنا على المستوى النظري ولا يُفترض أن يكون كذلك، بل عليه أن ينبع من تجاربنا المعاشة. بالفعل، إن الممارسة وتداعياتها هي الأهمّ عند ارتباط الأمر بالعلاقات والتفاعلات الاجتماعية. وينبغي أن تكون التجارب المُعاشة للناس المعيار الأوّل في تقييم وتشريع النظرية الاجتماعية. أما بعد، تتطرق هذه الورقة البحثية إلى نقد حقوق الإنسان ولا تتعامل نظرياتها وتاريخها، بل تبحث في هذه الحقوق ضمن سياق النظام العالمي الحالي وفقًا لتأثيراته على حياة الشعوب. على وجه التحديد، قامت الورقة بالتركيز على العلاقة بين الجغرافيا، أو المكان، والحقوق مستخدمة اثنوغرافيا ذاتية لإظهار كيف أن رحلتي كإنسانة (يفترض أن تتمتّع بحقوقها الإنسانية) تثبت أن النظام الحالي لحقوق الإنسان ليس قمعيًا وحسب، بل هو أداة لتسهيل القمع كذلك.
- 1. "الجدران لديها آذان".
- 2. على سبيل المثال، أكد بيان صادر عن سوريا أولًا في تشرين الثاني 2012 تحت عنوان "نحن البديل الأخلاقي" على ملامح الثورات باعتبارها غير طائفية وشاملة وديمقراطية وتعددية ومدنية وتسعى إلى الحفاظ على الكرامة والحرية. لمزيد من الأفكار حول حركة اللاعنف في سوريا،: حركة اللاعنف السورية – وجهات نظر من الأرض [متاح على الإنترنت: www.dawlaty.org].
- 3. أدى الحكم السيء والسياسات الزراعية غير المستدامة لنظام البعث سوريا إلى وقوع جفاف شديد بين عامي 2007 و2010، حيث عانى 75٪ من المزارعين في منطقة "سلة الخبز" الشمالية الشرقية من فشل المحاصيل. أجبر هذا 1.5 مليون شخص على الهجرة من المنطقة. وتجدر الإشارة إلى أن الدراسات النموذجية تشير إلى أن السبب لم يكن طبيعيًا، بل جاء نتيجة للتدخل البشري في النظام المناخي والزيادة في غازات الاحتباس الحراري (كيلي وآخرون، 2014). استقر النازحون الأشد فقرًا في خيام بلا كهرباء أو مياه أو أي خدمات أخرى، وجرى استبعادهم من المشاريع الإنسانية والإنمائية، بهدف دفعهم للعودة إلى أراضيهم الجافة، على الرغم من أن الحكومة لم تبذل أي محاولة جادة للإصلاح الزراعي.
- 4. ترجمة لكلمة Statism، وهي المؤسسات والممارسات السياسية التي تمنح الدولة والسلطات التنفيذية حيزًا واسعًا للسيطرة على إدارة الشؤون الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من المجالات. (المترجمة)
Abu-Lughod, L. (2002). Do Muslim Women Really Need Saving? Anthropological Reflections on Cultural Relativism and Its Others. American Anthropologist, 104(3), 783-789.
Aziz, N. (1999). The Human Rights Debate in an Era of Globalisation, Hegemony of Discourse. In Peter van Ness, (ed.), Debating Human Rights: Critical Essays for the US and Asia. London and New York: Routledge.
Cayetana, D. (2013). Waging a War of Terror: Invasion, Surveillance and Desire in Robert Drewe’s Grace. Critical Race and Whiteness Studies, 9(2),1-16.
Fanon, F. (1961). The Wretched of the Earth. New York: Grove Press (1963 translation).
Foucault, M. (1991). Discipline and Punish. London: Penguin Books.
Haugbolle, S. (2008). Imprisonment, Truth Telling and Historical Memory in Syria. Mediterranean Politics, 13(2), 261-276. [Special Issue: The Politics of Violence, Truth and Reconciliation in the Arab Middle East].
Kelley, C. P., Mohtadi, S., Cane, M. A., Seager, R. & Kushnir, Y. (2014). Climate change in the Fertile Crescent and implications of the recent Syrian drought. Proceedings of the National Academy of Sciences, 112(11), 3241-3246.
Kundera, M. (1982). The Book of Laughter and Forgetting. London: Faber and Faber.
Lacoutre, J. (1970). The Demigods: Charismatic Leadership in the Third World. London: Martin Seckler and Warburg Ltd.
Malmvig, H. (2016). Eyes Wide Shut: Power and Creative Visual Counter-Conducts in the Battle for Syria, 2011–2014. Global Society, 30(2), 258-278. [Special Issue: Counter-Conduct in Global Politics: Theorizing the Subjects and Practices of Contesting Conduct].
Mitchell, D (2003). The Right to the City: Social Justice and the Fight for Public Space. The United States of America: The Guilford Press.
Mitchell, W.J.T. (1994) Imperial Landscape. In Mitchell, W.J.T. (ed.) Landscape and Power. Chicago: The University of Chicago Press. 5-34.
Mitchell, W.J.T. (2005). What Do Pictures Want? The Lives and Loves of Images. Chicago: University of Chicago Press.
Muffe, C. (2007) Artistic Activism and Agonistic Spaces. Art & Research,1(2), 1-5.
Puar, K. J. (2007). Terrorist Assemblages: Homonationalism in Queer Times. Durham: Duke University Press.
Sacranie, N. K. (2013). Image Politics and the Art of Resistance in Syria. State Crime Journal, 2(2), 135-148.
Said, E. (1978). Orientalism. London: Routledge & Kegan Paul Ltd.
Schacherreiter, J. (2014). Propertization as a Civilizing and Modernizing Mission: Land and Human Rights in the Colonial and Postcolonial World. In Dhawan, N. (ed.) Decolonizing Enlightenment: Transnational Justice, Human Rights and Democracy in a Postcolonial World. Leverkusen, Germany: Barbara Budrich Publishers. 1-15.
Wedeen, L. (1999). Ambiguities of Domination: Politics, Rhetoric and Symbols in Contemporary Syria. London: University of Chicago Press.