"قلوبهم/ن تؤمن بالثورة": حديث مع سارة، ثائرة من طرابلس
the_fire_helps-page-001.jpg
في السابع عشر من تشرين الأول/أوكتوبر 2019، تفجّرت ثوراتنا في كافة شوارع لبنان. نزع دويّ تلك الأصوات المحتجة في كل مكان مركزية العاصمة بيروت. فتتبّعت صداه وزرت طرابلس عدة مرات، كنت خلالها، مدركة لموقعي كبيروتية من الطبقة الوسطى، ومتيقظة حيال ديناميات القوة التي قد تفرضها السياحة الثورية. وخلال زيارتي الثانية، سألتني إحدى النسويات التي كنت قد تواصلت معها إذا أردت أن ألتقي بروزا لوكسبرغ الطرابلسية.
نظرت سارة إليّ باهتمام بالغ. وكنت قد شاهدتها قبل أسبوعين، عبر فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، تهتف ملء حنجرة تفيض غضبًا وشجاعة، كان ذلك خلال مسيرة طلابية. التقينا قرب إحدى أكشاك القهوة المنتشرة على "الجزيرة"، حيث توجد الخيم في ساحة النور. هناك، حاضرتني شارحة كيف أن النسوية لا تتمحور حصرًا حول قضايا النساء، أو حول القضايا التي تواجهها حاليًا، كعلاقة المراهقات بأجسادهن، العائلة، والبيئة. ثم قالت "النسوية تُعنى أيضًا بالصراع الطبقي". وأضافت "قرأت مجلتك، وأحببتها".
في السابع من كانون الأول/ديسمبر، جاءت سارة إلى بيروت لتشارك في المسيرة النسوية ضد التحرش الجنسي. التقينا في رياض الصلح ومشينا معًا إلى شارع بليس. راقبتها طوال المسيرة لأطمئن عليها، ولكنني، أدركت فيما بعد، أنها لا تحتاجني لأقدم لها الرعاية، بل لأكون رفيقتها النسوية في الثورة. بعد المسيرة، قررت ألّا أؤطر مساهمتها في المجلة عبر مقابلة، لأنني أردت تجنب الحواجز التي يفرضها هذا الشكل. في المقابل، تناقشت مع سارة في إحدى مقاهي بدارو. وهذا صلب ما علمتني إياه سارة: أن أتجاوز أحكامي ومعتقداتي الخاصة، مهما كانت محقّة، وأتواطؤ عبر الانخراط في حديث قد يهدد قناعاتي ويدفعني إلى تغييرها. بعد ذلك الحديث، لم يعد بمقدوري أن أتجاهل الحدس الذي رافقني دائمًا: هي ليست روزا لوكسبورغ، اسمها سارة، وهي من طربلس، وهي المستقبل.
السياسة في حياتنا السياسية
سارة: اسمي سارة، وعمري 17 عامًا. أعيش في طرابلس حيث ولدت وتربيت. أنا نسوية ويسارية ونباتية. أعتبر أني جريئة ومقدامة، ولكنني حساسة في الوقت ذاته، ولا أطيق السكوت في وجه الظلم. أتحصن بالطاقة الإيجابية وأشاركها مع غيري إذا دعت الحاجة، بيد أني لست متفائلة. كما أنني حذرة بشكل عام، ربما لأنني أكره الأحكام المسبقة، بما فيها تلك الصادرة مني. أفتقد في عملي السياسة إلى خبرة الأجيال التي سبقتني، وأعتقد أن النقاشات بين الأجيال مهمة للغاية. ولكنني أعبر عن السياسة انطلاقًا من تجاربي. فالطرابلسيون/ات يعرفون الفقر والمعاناة والبطالة و"التعتير"، ويتكلمون عن ذلك لأنه واقعهم/ن اليومي، الذي لا يملكون رفاهية الانفصال عنه. فهم/ن جزء من هذا الواقع، يكبرون به وفيه – هذا ما نراه وما نعرفه. لذا، عندما نتكلم، نتكلم عن هذا الواقع السياسي والاجتماعي. ليس أمامنا سوى الحديث عن السياسة لأننا نعيش تفاصيلها في حياتنا السياسية.
غوى: اسمي غوى. عمري 30 عامًا. أعيش حاليًا في بيروت، ولكني تربيت في المتن. أنا نسوية كويرية يسارية. أعمل في مجال الأرشفة والكتابة. وأعتبر أني جريئة أيضًا، غير أن جرأتي ليست مرئية بالضرورة. لا أؤمن بالتفاؤل والأمل كعاملين ضرورين في العمل السياسي. فأحيانًا، يكون اليأس سبيلنا إلى التقدم. ولكني، لا زلت أكتشف كيف تتصل عواطفنا بنسويتنا، فمجتمعنا لا يقدر العاطفة، ولأني شخص يميل إلى التجنب، أعمل على ربط عاطفتي بمواقع وسياسات مختلفة. وهذا لا يخصني كفرد، بل بصفتي جزء من جماعات تعيش ضمن أنظمة قمعية.
سارة: كنت في الرابعة عشر عندما قرأت عن النسوية للمرة الأولى. قرأت عنها مصادفة عبر إحدى صفحات الفايس بوك، وشعرت حينها أنني أريد أن أكون جزءًا منها. النسوية هي ممارسة بالنسبة إلي. فكلمّا رأيت تحرشًا أو تحقيرًا أو تحجيمًا للنساء، أندفع لأشرح مساوئ هذا الفعل. لأن كارهي النساء لا يدركون كرههم هذا أحيانًا. كما أعتبر أن دعم النساء ومساندتهن أمرًا في غاية الأهمية، لأن ذلك يُظهر كيف يمكن للنساء أن تقفن إلى جانب بعضهن البعض وتتحاورن بانفتاح تام. ولكنني لم أقدر على فعل ذلك مع عائلتي. فهم يرون في تمردي مراهقة، ويعتبرون أن النسوية معادية للدين. لذا، ليس بوسعهم استيعاب فكرة إيماني بتحرر النساء، وبالتالي، فشلت في محاورتهم. غير أني لا زلت أؤمن بأن الحوار والقراءة والنقاش هم السبل الوحيدة القادرة على تغيير الايديولوجيات.
غوى: لا يمكنني معرفة الحدث الذي دفعني إلى النسوية. ولكن بصفتي امرأة كويرية، كان المضي عكس التيار، خياري الوحيد. كان علّي إما أن أهادن، لا لأنني امرأة وحسب، بل لأنني شخص كويري، وإما أن أقاوم. فعندما تهزمين نمطًا، يكون الزوال مصيرًا محتمًا لباقي الأنماط. فنسويتي ليس نضالًا يسعى لتحقيق جانب واحد للعدالة، بل إنها رؤية تؤمن بالعدالة الكاملة، وتحمل طرحًا سياسيًا شاملًا.
سارة: النسوية ليست حكرًا على النساء المغايرات والمنسجمات مع النمط السائد، بل إنها أيضَا للكويريين/ات والعابرين/ات. لا أحد يتكلم عن أو يعرف النساء العابرات. لذا، عليهن قيادة نضالهن، والانخراط في مجتمعاتهن، والتعبير عن أصواتهن. كنسويات، لا بد لنا من دعمهن ودعم كافة الفئات المهمشة. يتحقق هذا عبر التضامن معهن، واعتبار نضالهن جزءًا من نضالنا، بالإضافة إلى مواجهة رهاب المثلية والعبور.
غوى: عندما القتينا للمرة الأولى، قلت أن النسوية هي صراع طبقي. كان لذلك صدى كبير في داخلي، لأنني أربط جميع النضالات بالأبوية والرأسمالية.
سارة: الأبوية، تمامًا كالعنصرية، لا يمكن فصلها عن الطبقية. فالرجال البيض، أو الأكثر بياضًا، ينعمون دائمًا بالأفضلية ويحظون بالامتيازات، سواء من خلال النظام القانوني، أو معدّلات الدخل.. نعلم أن الرأسمالية ترتبط بالطبقة، فهناك الطبقة البرجوازية والطبقة العاملة. طرابلس هي خير مثال على ذلك، حيث توجد قلة من الأثرياء السياسيين، وكثير من الفقراء "المعتّرين". كيسارية، من واجبي أن أكشف الوجه الحقيقي للنظام الرأسمالي: استشراسه وجرائمه. ولكن، الطريق أمامنا طويل جدًا، بيد أنه ليس مستحيلًا. فلا يمكن للرأسمالية أن تمثل مصالحنا – فهي تمثل مصالح البرجوازية، كما لا يمكنها أن توفر العدالة للجميع. وهذا طرح نسوي أيضًا، لأن النظام الرأسمالي هو نظام مجحف بحق النساء، كبشر، كعاملات.
غوى: لا أذكر أني خضت نقاشات مشابهة عندما كنت في المدرسة. كيف تقومين بذلك؟
سارة: لا أعتبر أني أجري نقاشات، بل أتخذ مواقفًا في لحظات معينة. مثلًا، تخجل رفيقاتي من التكلم حول الدورة الشهرية. ولكني، أشجعهن، وأقول لهن أن ذلك ليس معيبًا على الإطلاق، وأذكرهن بأهمية حبهن لذاتهن وثقتهن بذاتهن. فكلما تجرأنا على البوح والإفصاح عن قضايانا، كلما تضاءل خوف النساء وازدادت مقاومتهن. وهذا ما أعنيه عندما أؤكد على أهمية التضامن.
الثورة تبدأ من الذات
غوى: ما قلتيه عن أهمية المواقف في لحظات معينة، بدلًا من الانغماس في النقاشات، ينطبق على ما نعيشه اليوم خلال الثورة، وما تتطلبه من اصغاء وتضامن. بصفتي شخص يعمل على المستوى النظري، أشهد على لحظات وحركات تستدعي تدخلًا ومساندة فورية، وخاصة لك المحملة بالعمل الذي يناهض السائد والايديولوجيات السياسية. لذا، أؤكد على أهمية المعارف البديلة، وكيفية صنعنا لتاريخ النسوي، والتأثير بمجريات التاريخ. فهذه الثورة غيرت المشهد الاجتماعي السياسي بشكل حاد، وتجاوزت الحدود التي وضعها الخطاب الحالي.
سارة: يتطلب تغيير الخطاب الالتزام باعتبارات متعددة. بما فيها اللغة التي نستخدم في الخطاب. وكما قلت، هناك حاجة ملحة تبرز في مطالبنا. لذا، يجدر بالخطاب أن يستخدم التاريخ، ويشرح ماذا فعلت الأبوية ولا تزال بالنساء. فماذا لو استهدفنا أساس المشكلة – النظام القائم – وأعدنا كتابته بما يتلائم مع مطالبنا، لنتمكن من فرض أجندة نسوية تصب في مصلحة النساء والعمال/ات؟ بالطبع، لا بد لنا، لتحقيق ذلك، اجتياح النظام والهجوم عليه، لنمنع سطوة الأبوية. وهذا يحتاج إلى أن نكون كثيرات ومدعومات وواعيات.
غوى: فإذن نحتاج إلى العمل ضمن مجتمعاتنا.
سارة: تمامًا. يجدر بنا الانخراط ضمن مجتمعاتنا، لأنها ضمانتنا ومصدر دعمنا. وعلينا أن نقنع مجتمعاتنا أن التضامن مسؤوليتها، لأننا في المحصلة نسعى إلى التحرّر. فهدفنا بالنتيجة قلب هذا النظام. لهذا، لا يمكن لعملنا ضمن منظماتنا إلا أن يكون مرحليًا ومؤطرًا، وبالتالي غير مؤثر أو قادر على التغيير الفعلي. أما كتابة التاريخ وإنتاج خطابنا الخاص، يستلزمان احتلالًا لمراكز السلطة. فالقوانين الحالية لا تعطي النساء كامل حقوقهن، في حين يبقى تمثيل النساء في البرلمان وهمًا وغطاءً للتقصير الراهن إزاء قضايا النساء.
غوى: أسأل نفسي دائمًا، ما الذي يمكننا تغييره، في حال وصلنا إلى مراكز السلطة؟ ماذا يعني لنا اختراق هذا النظام وبنيته المتجذرة في الأبوية والعنصرية ورهاب الجنسيات الأخرى وغيرها؟ هل سنتمكن فعلًا من تدمير هذا النظام، أم أننا سنبرز وجهًا آخر للنظام ذاته، من دون تحقيق التغيير الحقيقي؟
سارة: لا يمكن أن ننسى أن هذا النظام صامد منذ عقود. لذا، لا يمكن اسقاطه بين ليلة وضحاها – فهو متشعب وممتد في كافة جوانب حياتنا. نحتاج إلى الكثير من الوقت والعمل ضمن مجتمعاتنا. لأن العمل الحقيقي والتغيير الحقيقي يبدأ من هناك. فعندما تعي مجتمعاتنا ما اقترفه هذا النظام الرأسمالي والأبوي، ستفهم أن هناك أفراد ومؤسسات ساهموا في إحيائه واستمراه. وهذا ما نراه في ثورتنا – اتهامات تطال وتفضح المنتفعين من والمهادنين مع هذا النظام.
غوى: كيف اختبرت الثورة؟
سارة: الخميس، في السابع عشر من تشرين الأول/أوكتوبر، كنت أشاهد الثورة عبر التلفزيون. رأيت الناس يثورون، وبكيت مع ألمهم. الألم الذي لم أعرف قبل ذلك – في الصباح التالي، قصدت الباص وذهبت إلى بيروت، حيث بدأت الثورة. شعرت حينها بأن كل شيئ بلغ حده الأقصى – رأيت الغضب وسمعت الهتافات. كانت تلك أول مرة أذهب فيها إلى رياض الصلح، ولم أكن أعرف ما أفعل وكيف ينبغي أن أتصرف. بعد ذلك، رافقني أحد المتظاهرين إلى الكولا، حيث انتظرت إلى أن يأتي أحدهم ويصطحبني. حينها لم أشعر وحسب أن الناس ستقف إلى جانبي إذا وقفت إلى جانبهم، بل شعرت بحس من المسؤولية. تعلمت ماهية المحاسبة، والاشتراكية، والنظام الرأسمالي، وحكايات النساء. عرفت لماذا أثور، وأدركت أن الثورة تبدأ من داخلي وعلى نفسي قبل النظام. وعندما واجهنا الجيش بأجسادنا كنساء يوم الجمعة، شعرت بقوة هذه اللحظة. فقد أظهرنا حينها صلابتنا وجرأتنا كنساء متكاتفات جنبًا إلى جنب. كان الناس جميعًا داعمين لي ولهتافاتي. حررت هذه الثورة صوتي ومنحتني حرية التعبير عن مطالبي، كالتعبير عن تضامني مع الكويريين/ات مثلًا. سقط خوفي.
غوى: انتشر فيديو تهتفين فيه على الفايسبوك.
سارة: كان ذلك خلال مسيرة الطلاب/الطالبات في طرابلس. استيقظت في اليوم التالي، لأجد كمًا هائلًا من الرسائل حول هذا الفيديو. شاهدته ورأيت نفسي. وبعد ذلك، بدأت الناس تناديني باسم "ثورة"، كما قالوا أنه علي أن أقود الثورة. وعلى الرغم من الثقة التي شعرت به على إثر هذا الفيديو، إلا أنني لا أحبذ ذلك. ولا أعتقد أنه يجب أن يكون هناك قائد/ة. ولكن، في الوقت ذاته، أذاني هذا الفيديو في عدة مناسبات. فقد اعتبرني البعض "الوجه المسالم للثورة"، ونصحوني بالابتعاد عن العصيان المدني، أو حتى مجرد التعبيير عن أي شكل من أشكال المعارضة، كالتظاهر أمام بيوت السياسيين مثلًا.
غوى: هل يعني ذلك أن البعض رأى فيك صورة الثورة الصحيحة و"المحترمة"؟
سارة: تمامًا. فقد تمت دعوتني إلى التظاهرات لكي أهتف، غير أني لا أريد أن أهتف وحسب، فهذا ليس كل ما أمثل. أريد أن أشارك في التنظيم والنقاش مع الناس. كما أنني تلقيت تعليقات مؤذية، مثل "صوتك كصوت الرجال" أو ك"أنت بمليون رجل"، وهو تعليق ذكوري مبطن، برأئي. لذا، استنتجت أن الثورة تبدأ من الداخل.
غوى: في السابع عشر من تشرين الأول/أوكتوبر، كنت في الطيارة. أعتقد أني كنت قد فقدت الأمل بالثورات. شعرت أني وصلت إلى طريق مسدود، خاصة في ظلّ الدور الخبيث الذي تلعبه السياسة لإحباطنا. تهاوى كل شيء وتهاويت معه. فأخذت إجازة وسافرت. في ذلك الأحد، كانت التظاهرات مدوّية وحاشدة وكنت بعيدة جدًا، فغرقت في عواطفي. فكرت بالعودة الفورية، ولكني تراجعت، لأمنح نفسي المساحة التي أحتاج لأتمكن فيما بعد من مواصلة واجبي السياسي وأقوم بالعمل الذي أريد فعله. وفي الصباح الذي تلا وصولي إلى بيروت، أي بعد مرور أسبوع على اندلاع الثورة، كان أول ما فعلت هو المشاركة بقطع الطريق مع إحدى المجموعات.
سارة: كنت في بيروت، عندما منعنا انعقاد جلسة مجلس النواب. ووقفنا كنساء في المقدمة. كنت أهتف حينها. وحاول الجيش اعتقال أحد المتظاهرين الرجال من دون سبب. لم أعرف ذلك الرجل، لكن الثورة علمتني أن الناس لبعضها. فرحت أصرخ في وجه الجيشي، وقلت "لا يمكنك اعتقاله، هذا أخي". عندها، أثرت ضجة كبيرة دفعت الناس إلى مساعدتي وانتشال ذلك المتظاهر من يد الجيش وإعادته إلى صفوفنا، إلى الأمان. تركت فيّ، هذه اللحظة التي شعرت فيها بالتضامن وتشارك الألم والنضال، أثرًا بالغًا.
التجييش، التنظيم، الحشد
غوى: قلت أنك لا تريدين أن تهتفي وحسب، أخبريني عن مشاركتك في التنظيم والتجييش.
سارة: أقرا كثيرًا، وأشارك في الحلقات النقاشية، لكي أكتب هتافات أو أخاطب الناس بناء على استنتاجات وفهم أعمق لنظامنا ووضعنا الحالي. مثلًا، عندما أفهم كيف يعمل النظام المصرفي، أناقش بجدارة ماذا نحتاج للاستقلال عنه. علينا أن ننتظم في مواقع كثيرة ونعززعلاقاتنا كطلاب/طالبات ونساء وعمال/ات. الآن، أقرأ "الأسس الأخلاقية للماركسية"، وعندما أنتهي من قراءة هذا الكتاب، سأبدأ بكتابات باسل الأعرج، الذي علمني كيف أثور. عندما أعطاني صديق هذا الكتاب، طلب مني أن أقرأه بعد الثورة، لأن خاف أن يدفعني إلى القيام بأعمال الشغب، لأنه يعلم أنني لا أؤمن بالثورات غير العنفية. بالنسبة إلي، هذه انتفاضة، وليس ثورة.
غوى: ما الفرق؟
سارة: الانتفاضة هي احتجاج الناس على واقعهم وحكامهم. أما الثورة، فهي تغيير جذري يقتلع النظام من جذوره. لم نصل إلى تلك المرحلة بعد. فالعنف والشغب هما جزءان لا يتجزءان من الثورة. مر 51 يومًا على انطلاق الثورة، ولم يحدث أي تغيير ملموس. بل ازدادت حالات الانتحار، وانسحب جزء ليرتاح في بيته، بينما تخوف البعض الآخر من بقاء الأمور على ما كانت عليه قبل 17 تشرين الأول/أوكتوبر. سيثور الناس عندما يجوعون، وعندما تتدهور أوضاعهم الاقتصادية بسبب الأزمة. وهذا ما أعمل عليه الآن وأجيش في سبيله عبر لجان الطلاب/الطالبات.
غوى: كيف كانت ردة فعل أهلك تجاه ذلك؟
سارة: خلال مسيرة الطلاب/الطالبات، توقفنا في عدة مدارس، 6 أو 7 مدارس تقريبًا. في إجدى تلك المدارس، وجدنا الطلاب/الطالبات خارج المدرسة فعلًا، وكذلك الأهالي، الذين كانوا ينتظرون الأساتذة ليفرضوا على الطلاب العودة إلى صفوفهم. بعض الأهالي تصرفوا تمامًا كالمافيا (العصابات). أذكر أمًا صرخت في وجهي ووصفتني بقلة الأدب لأني حرضت الطلاب/الطالبات على التظاهر. وعندما حاولت أن أناقشها، صرخت بي وأمرتني أن أخرس، وأعود إلى مكاني الطبيعي، أي المدرسة، وليس الثورة. يتهمنا الأهالي أيضًا بأننا جيل عديم الفائدة، عبر أكاذيب واشاعات يطلقونها، كتلك التي تعتبر أننا نتذرع بالثورة حتى نتمكن من تدخين الشيشة (النرجيلة). لقد تشاجرت مع أساتذة في الحلقات النقاشية في طرابلس بسبب الفكرة السائدة حول الطلاب/الطالبات، والتي تقلل من شأنهم وتعتبرهم غير مؤهلين/ات للتنظيم وإحداث التغيير. وهذا يحجّم دورنا، ويحبطنا ويؤذينا على المدى البعيد. لذا، غيرنا استراتيجيتنا كطلاب/طالبات. فلا بأس إن أصبحت مشاركتنا في التظاهر صعبة نتيجة رفض أهالينا. ولكن هذا لا يمنعنا من التجييش ومشاركة الأفكار ومقاومة السياسات والمفاهيم التي نريد تغييرها.
غوى: أنظم جزءًا من مجموعة نسوية أكبر في بيروت. نتشارك مبادئ وقيم نجسدها عبر التضامن. فالعمل ضمن مجموعة منظمة أكثر فعالية من العمل الفردي. كما أني أؤمن بأهمية بناء الجسور مع أشخاص خارج بيروت. لذا، جئت إلى طرابلس. وأردت أيضًا أن أساهم في كسر صورة بيروت الواجهة، لأن هذه مسألة طبقية بالنسبة إلي، فكل الموارد ورؤوس الأموال والبنى التحتية والإعلام يتخذون من بيروت مركزًا لهم.
سارة: هذا ينطبق أيضًا على صنع القرارات الاقتصادية والمساحات التعليمية. علينا أن نتواصل أيضًا مع الناس في كافة المناطق، في بعلبك وعرسال مثلًا.
غوى: ولكنني لا زلت لا أعرف كيفية القيام بذلك. فأنا أعيش في بيروت، حيث شبكة علاقاتي ويومياتي. يمكنني أن أقضي بضعة أيام في مناطق أخرى، ولكني، بطبيعة الحال، سأعود إلى حياتي في بيروت، وسأنعم بالامتيازات المرتبطة بشكل المواطنة، الموقع الجغرافي والطبقي.
سارة: لا يمكننا الوصول إلى الناس كأفراد. لن ينجح ذلك. وكما قلت، سنتواجد معهم لمدة يوم أو اثنين. ولكن يمكننا أن نتعرف إلى أشخاص من تلك المناطق يشاركونا القيم ذاتها ويعملون على ترويجها داخل مجتمعاتهم. مثلًا، عندما تلتقين بشخص من طرابلس تتفقين معه سياسيًا، يمكنك العمل مع هذا الشخص، ليقوم بدوره بالعمل مع المجتمع الذي ينتمي إليه.
غوى: فإذن أنت تتكلمين عن موجات وليس أفراد.
سارة: تمامًا، كأثر التموجّات المتتالية. فعندما قال الناس أنه علينا أن نذهب إلى ساحات بيروت لنضغط من هناك، رفضت ذلك. لأني لا أقبل أن نهجر الساحات في طرابلس، حيث يحاصر الفقر أهلنا الخائفين من فشل هذه الثورة. فصمودنا في ساحتنا هو وفاء لهؤلاء الناس الذين يريدون أن يرونا جنبًا إلى جنب معهم في هذه الثورة. وهكذا أدركت أن ثورتي لا تكون إلا داخل المجتمع الذي أنتمي إليه وأعيش فيه، وأن دعمي لهؤلاء الناس مستمد من حاجتي إلى دعمهم.
ما بين المتخيّل والمستقبلي
غوى: ما الذي يدفعك إلى اعتبار أن الثورة نجحت؟
سارة: الإغلاق التام الذي شهدناه، إغلاق المحال التجارية وتسكير الطرقات وأماكن العمل والمدارس والجامعات، والأصوات التي هتفت ثورة في جميع أنحاء البلد. فالناس لم تعد قادرة على تحمل هذا الوضع، حيث يعيشون في فقر وجوع، بينما ترفض المستشفيات علاجهم/ن وتنقطع عنهم/ن الكهرباء والمياه. وسينفذ صبرهم/ن بالتأكيد، ليعودوا من جديد إلى الشوارع. عندما يسقط الخوف، تنتصر الثورة.
غوى: بالنسبة إلي، أقيم ذلك استنادًا إلى مستويين. فسقوط النظام وحده ليس كافيًا، بل بناء البديل اليساري النسوي التقدمي. أحيانًا يتهاوى النظام ليعيد إنتاج نفسه بأشكال ومسمّيات أخرى. لتصبح المكاسب مجرد حصيلة اصلاحات، هدفها إسكات الصوت المعارض، في حين أنها (الاصلاحات) بمثابة عظمة يرمونها للشعب. نحن نعيش زمنًا ثوريًا ملموسًا ومرئيًا وحقيقيًا. ولكنك قلت شيئًا جميلًا لفتني، أن الثورات تبدأ من الذات، وداخل المجتمعات التي ننتمي إليها. هل نعيش الثورة في حياتنا اليومية بعيدًا عن أضواء المساحات العامة؟ فنحن نثور في مساحاتنا الشخصية طوال الوقت، ضد عائلاتنا ومحيطنا وتقاليدنا. ناهيك عن العلاقة المعقدة مع أجسادنا. ولكن، بعد انتهاء الثورة بشكلها المرئي والعلني هذا، ماذا سنفعل كنسويات؟
سارة: علينا أن نبدأ بالعمل انطلاقًا من هذه اللحظة. علينا أن ننظم أنفسنا ضمن مجموعات تعرف بعضها وتعرف كيف تتواصل مع غيرها من الناس. علينا أن نؤسس النقابات واللجان والمؤسسات. لقد خلقنا فعلًا إطارًا مشتركًا يجمعنا، لننطلق من هناك، على الرغم من التحديات. أحيانًا أذهب إلى الساحات ولا أجد أحد وأتساءل إذا فقدنا قدرتنا على مواصلة النضال. عندما انتحر ناجي، وهو رجل من عرسال، لم يكن هناك أي ردة فعل حيال ذلك. بل تابعت الناس حياتها العادية في عملها أو مدارسها. شعرت حينها بالهزيمة والخيبة. ولكن محيطي جعلني أتماسك، وعلمني أن النضال هو كر وفر. أحيانًا أتساءل، هل يشارك الناس في التظاهرات لأنها أصبحت موضة عامة؟ أو هل تؤمن قلوبهم بالثورة لأنها واجبهم/ن ولأن معيشتهم/ن باتت مهددة؟
غوى: ما رأيك بمسيرة اليوم ضد التحرش الجنسي؟
سارة: لقد كانت رائعة وقوية، ولكن لا شيء يشبه المسيرات النسوية في طرابلس.
غوى: هل يمكنك أن تشرحي ذلك؟
سارة: شاركت في تنظيم إحدى المسيرات النسوية في طرابلس. في بيروت، هناك جرأة في أساليب التعبير عن النضال، وأيضًا المواضيع التي يتطرق إليها، كالهتافات المناهضة لرهاب المثلية والعبور. أما في طرابلس، نكتب شعاراتنا بحذر لتتماشى مع نبض الشارع. نفحص ونختبر خطابنا في الشارع، ونقوم بذلك خطوة تلو الأخرى. لأننا لا نريد أن نعزل الناس. لم نتكلم بعد عن المحاكم الشرعية أو التحرش الجنسي أو الاغتصاب مثلًا، ولكننا أتحنا مساحة تعبير تتسع للجميع. في بيروت، احتكرت 4 أو 5 أصوات الهتافات، وهذا، زعجني كثيرًا. كنت أتمنى أن يتاح للجميع مساحة للهتاف والتعبير عن ما يريدون قوله، وليس فقط أولئك الذي يحملون مكبرات الصوت ويقفون إلى جانب سيارة الصوتيات – لما لا؟
غوى: أفهم الحاجة إلى فحص الخطاب واختبار صداه في الشارع. في الوقت ذاته، إن لم نقل ما نريد الآن، فمتى يكون ذلك؟ قالوا لنا أن وقت المسيرة العلمانية لم يحن بعد، ورفض المجتمع المدني أن يشارك في تلك المسيرة. ولكننا، على الرغم من ذلك، مشينا في المناطق الشعبية والسكنية في بيروت، واستقبلنا الأهالي بالأرز وقرع الطناجر. سكان هذه المناطق أكثر تقدمية من المجتمع المدني.
سارة: علينا أن نكون حاسمات وجريئات. فالدولة العلمانية هي مطلب أساسي، وليست مسألة قابلة للتأجيل إلى وقت لاحق. أنظري إلى الثورات حول العالم. لقد آن الأوان. نحن نقرأ عن الطبقية والبطالة والفقر والسلطات الدينية في العراق وتشيلي وإيران. كيف يمكن ألا تنتفض الشعوب في وجه ظُلّامها؟ استيقظت شعوب العالم بأسره.
غوى: مع تصاعد اليمين المتطرف ووصوله إلى الحكم في مناطق عدة، شعر الناس بيأس شديد.
سارة: وهو ينتشر ويتفاقم، تمامًا كما يجب أن يحصل.