التاريخ الذي لم ينته بعد
مترجمة عن اللغتين الإسبانية والإنجليزية. خرّيجة الجامعة الأردنية وجامعة غرناطة، تعمل في مجال الترجمة الفوريّة وأتمّت أخيراً ترجمة رواية "الصوت النائم" للكاتبة الإسبانية دولثي تشاكون من الإسبانية إلى العربية.
تشجّع ناديي برشلونة والرمثا، وتمضي مع القواميس وقتًا أطول ممّا تمضيه مع الأهل والأصدقاء مجتمعين. تُخصص أوقات الفراغ لتصحيح الهمزات لروّاد الإنترنت بدون مقابل.
لطالما نظرتُ إلى الترجمة كما أنظر إلى الصحافة: عذران مقبولان للتطفّل على حياة الآخرين، ولطالما وهبتني الترجمة مكاني الآمن: مكاني كذبابة على الجدار. ترجمةُ مقابلة أمل إقعيق مع لويس مارتينس أندرادي أعطتني كرسيًا شفّافًا على طاولة الحوار لأستمع إلى أمل وهي تُطلعنا على مسائل الهوية والاستعمار والجندر كما رأتها وفهمتها وعاشتها من قاعات الدراسة في فلسطين الثمانية وأربعين إلى الولايات المتحدة وانتهاءً بولاية تشياباس في جنوب المكسيك.
لعلّني لم أدرك مسألة "الهوية" إلّا عندما أدركت أنني الفتاة العربية المحجّبة الوحيدة في قاعة محاضرتي في جامعة غرناطة جنوبيّ إسبانيا، وكنت حينها في العشرين من عمري. حتى تلك اللحظة، كنتُ دائمًا من "الأغلبية" وكنت أنا ومن يشبهونني في كلّ مكان. ولكن تلك الذكرى تضاءلت حدّ التلاشي عندما قرأتُ أمل وهي تصف نفسها ومحاضرتها: تكاد تكون الطالبة العربية الوحيدة في محاضرةٍ في جامعةٍ في "تل أبيب" تهيمن عليها السردية الاستعماريّة الإسرائيليّة والتي تعتبر المذابح التي مات فيها أهلنا في فلسطين مسائل "فيها وجهة نظر".
سؤالها عن الطريقة التي "يجب أن يُقرأ فيها إدوارد سعيد في تل أبيب" وعن "المعيار الأكاديمي" الذي ألزمها بتضمين السرديات الإسرائيلية في حديثها عن مذبحة دير ياسين، أعادَ إليّ إيماني بأهمية هذا الذي نفعله. أحيانًا نرزح تحت شعور عميق باللاجدوى، بأننا نبني ونهدم وهمًا بالكلمات، بينما المستعمِر مستمرٌ في الهيمنة على واقعنا بكلّ مفاصله، ولكن جهد الأكاديميين والكتّاب (من أمثال أمل) وجهد المترجمين (من أمثالي) يمكّننا من استرداد الحكاية (أقول "الحكاية" لأنني أكره "السردية") لكي لا ينام العالم "الأكاديمي" بكل ثقله على قضيتنا.
وبينما نحاول، ونبني ونهدم، أتعامل أنا مع شعوري اليومي بأن كل ما حولي "مترجَم" وأن الكلمات التي نستخدمها، خاصة عندما نتحدث عن النسوية، مترجَمة وخارجة لتوّها من فم متحدّث في مؤتمر. ولكن لا يهمّ، فالنساء اللواتي حملن دائمًا حِمل الحكايات، سيترجمن المصطلحات النسوية ويُعدن ترجمتها حتى تصبح كلمات يوميّة وعاديّة وقريبة من كل واحدة منّا، وحتى تروي حقيقة ما نعيشه وحتى تُروى حكاية النساء والنسويات بلسان عربيّ مبين.
Tears in the fabric.png
توطئة
"التاريخ الذي لم ينته بعد" هو حوار بيني وبين الباحث المكسيكي لويس مارتينس أندرادي، المُتخصص في الدراسات الاجتماعية وتاريخ لاهوت التحرّر في أميركا اللاتينيّة. نُشِر هذا الحوار في أنطولوجيا "نسويات خارج السرب"1 عن دار نشر لاڤوراخين في إسبانيا، وتشمل الأنطولوجيا ستّ عشرة مقابلة شخصيّة أجراها لويس بالإسبانيّة والفرنسيّة مع باحثات ومفكّرات نسويّات من الجنوب العالمي. تشكّل هذه المقابلات حواراً عابراً للأجيال والقارّات بين نسويّات عريقات ساهمن في تطوير لغة نسويّة مناهضة للعنف الجنسي والعنصريّة والرأسماليّة مثل ريتا سيغاتو (الأرجنتين) سيلڤيا فيدريتشي (إيطاليا) وفرانسوا ڤيرچيس (فرنسا) ونسويّات صاعدات من أميركا اللاتينيّة والكاريبي مثل كارينا أوتشوا (المكسيك) ومارغرا مييان (المكسيك) اللواتي شاركن في تأسيس حراك نسوي تحرّري في إطار مستقلّ ضمن الحركات الاجتماعية للشعوب الأصليّة. وقد أثبتت هذه الحركات من خلال تجربتها التاريخية الطويلة مع أطياف الماركسية وتعدّدية أنواع الاشتراكية أنّ عنف الدولة في أميركا اللاتينيّة والكاريبي وحلول الإصلاحات المؤسساتية التي تقدّمها للسكّان الأصليين والنساء، ما هي إلّا نسخة مُحدّثة لسياسات الاستعمار الرأسمالي، وبالتالي يجب على النضال النسوي أن يتصدّى لأساليب وطرح الحداثة الكولونيالية لأنها ترسخ الهرمية العرقية والاقتصادية التي بَناها الاستعمار الأوروبي.
ربمّا من المفارقة أن حواري مع لويس قد تمّ في إحدى مراكز الشمال العالمي وتحديداً بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي. ولكن في الحقيقة هذه المفارقة ليست غريبة، لأننا لو نظرنا إلى مصطلح الجنوب العالمي كجغرافية المسحوقين/ات والتابعين/ات بالإضافة لكونه نظرية تحرّرية ترصد تضاريس الخريطة الاستعمارية التي تُعيد إنتاج علاقات القوّة بين العالم الأول والعالم الثالث، سنكتشف أنّ الجنوب يتواجد في صُلب مدن الشمال. على سبيل المثال، العنصرية تجاه المسلمين/ات والمهاجرين/ات من أفريقيا في ضواحي باريس وفي المناطق التي يسكنها المهاجرون/ات المكسيكيون/ات واللاجئون/ات الصوماليون/ات والأَفارِقة-الأميركيون/الأفريقيات-الأمريكيات في مدينة مينيابوليس في ولاية مينيسوتا، التي أصبحت عاصمة جديدة للثورة السوداء أخيراً بعد مقتل جورج فلويد على يد الشرطة الأميركية بسبب لون بشرته السوداء، هي دليل على القمع البنيوي الذي تمارسه الدول الاستعمارية والإمبريالية داخل حدودها تجاه من تعتبرهم/هن قادمين/ات من العالم الثالث أو تابعين/ات للجنوب. وفي هذا السياق تطرح الأنطولوجيا سؤالين مهمّين: كيف تتشابك إذن النسويات في الجنوب العالمي مع هذه التركيبة الجغرافية والتاريخية لواقع الجنوب العالمي العابر للحدود؟ وما هي التقاطعات والتحالفات التي لا بدّ من تطويرها وبنائها في سياق عولمة نضال الأقلّيات المُهاجرة والأصلانية؟
في محاولاتي المتواصلة للإجابة على هذين السؤالين في بحثي حول الأدب الأصلاني في الجنوب العالمي وعملي الأكاديمي في الولايات المتّحدة كنسويّة من فلسطين، أدركت أنّه بالإضافة لمقاومة الأبويّة والذكوريّة والاستعمار والرأسماليّة لا بّد من الأخذ بعين الاعتبار تجلّيات العَنصرة وتأثيرها على تشكيل علاقات القوّة التي تصاحب التداخلات بين العرق والطبقة والنوع الاجتماعي والسلوك الجنسي كما تداولتها الموجة الثانية والثالثة للحركة النسويّة في سبعينيّات وثمانينيّات القرن الماضي في الولايات المتّحدة، والتي تأثّرت بها لاحقاً العديد من النسويّات الفلسطينيّات والعربيّات. من الجدير بالذكر هنا أنّ حواري مع لويس انبثق من حوار مسبق ومستمرّ في بروكسل مع صديقنا المُشترك المفكّر التحرّري والباحث الاقتصادي المناهض للرأسمالية سُهيل شيشاح. في هذه الحوارات حول المقاربات بين مفهوم الأَصلانيّة في فلسطين وأوروبا اتضح لي أن هناك جيل صاعد من أبناء وبنات المهاجرين/ات من أصول مغاربية وأفريقية في بلجيكا وفرنسا يتبّنى بشكل متزايد مصطلح الأصلانيّة كأداة سياسية نضالية لمحاربة التهميش الاقتصادي والإقصاء الاجتماعي بالإضافة إلى العنصرية الممنهجة التي تمارس ضدهم/ن في بلاد ما زالت تعتبرهم/ن مواطنين/ات من الدرجة الثانية رغم ولادتهم/ن ونشأتهم/ن فيها. اتضح كذلك أن منظومة الاقتصاد السياسي والعنف الاستعماري والمراقبة البوليسية التي تنتج أحياء المهاجرين/ات في ضواحي باريس وبروكسل على هيئة "چيتوهات"، تتماثل إلى حدّ كبير مع ممارسات التمييز العنصري والقهر الاقتصادي والتضييق المعماري والمحاصرة الأمنية التي تقمع الفلسطينيين/ات في القرى والمدن الفلسطينية المختلطة في إسرائيل. رغم اختلاف الحيثيات التاريخية بين الحالتين، هناك جوانب مشتركة لاستخدام مفهوم الأصلانية في سياق مواطَنة من الدرجة الثانية تثبت أن الامتدادين الجغرافي والزمني للإرث الاستعماري الأوروبي يتوازى مع نتاج النكبة المستمرّة في الداخل الفلسطيني وإن كان لا يشبهها. علاوة على ذلك، هناك أيضا تقاطعات مركّبة بين العَنصرة والنوع الاجتماعي والتي بدورها تخلق خللاً في نمط الأبويّة والذكوريّة التقليديّة من خلال بروز شخصية "الرجل المُسيطِر-المُسيطَر عليه".
من المثير للاهتمام أنّ التقاطع بين الأصلانيّة والعَنصرة والدين في سياق المغرب العربي واشتباكه مع تاريخ الاستعمار الفرنسي برز في المقابلات مع مشاركتين في الأنطولوجيا من أصول مغربية وجزائرية هما: نوريا والي (أستاذة علم الاجتماع في كلية الفلسفة والدراسات الاجتماعية في جامعة بروكسل الحرّة) وليلى بن حجوجة (أستاذ علم الاجتماع في كلية علم الاجتماع والانثروبولوجيا في جامعة أوتوا في كندا). في حوارهما مع لويس تطرّقت كلتاهما إلى قضية عَنصرة الأقليّات وعلم اجتماع العلاقات الإثنية والعرقية في السياق الفرانكوفوني في بلجيكا وكندا مستمّدات نظريات من الدراسات الأصلانيّة لرصد التمييز في قطاع العمل المغاربي عامة والأمازيغي خاصةً في أوروبا والجالية المسلمة في كيبك. أكّدت كلتاهما أهمية الجمع بين مفهوم الأصلانيّة السياسي والمنظور النسوي التحرّري لفهم التباينات الهيكلية لثالوث الاضطهاد الطبقي والأبوي والعنصري في مجتمعات المهاجرين/ات التي تعيش على الهامش في ظروف إرث استعماري فرنسي يمتدّ من الجزائر إلى بلجيكا وكندا ويتقاطع مع الهيمنة المزدوجة للرأسمالية العنصرية والنسوية الأوروبية البيضاء.
موضوع الأصلانيّة برز كذلك في الحوارات الأخرى مع نسويّات من المكسيك مثل روزڤالدا عايدة هرنندس كاستييو وماريانا مورا بايو اللتان تطرّقتا لتحدّيات النضال النسوي في المكسيك ضد آفة جرائم العنف ضد النساء. في حين تسعى النسويات لتطوير آليات مجتمعيّة مستقلّة خارج المنظمات الحقوقية والدولة بسبب تقصيرها الفجّ في مجابهة ظاهرة قتل النساء واستباحتهن. تدعو هاتان الباحثتان في الانثروبولوجيا والدراسات الأصلانية إلى اللجوء إلى تاريخ النضال السياسي والاقتصادي للسكّان الأصليين وخصوصاً في ولاية تشياباس، حيث نجحت ثورة الزاباتيستا منذ منتصف التسعينيات في سنّ قوانين نسويّة وجعلها من أركان الحكم الذاتي للسكّان الأصليين. وتضمن هذه القوانين للنساء حقوقاً مدنيّة كمواطنات من الدرجة الأولى بعكس تعامل دولة المكسيك معهن كتابعات من الدرجة الثانية بسبب العنصرية تجاه كل ما هو أصلاني.
يجب الإشارة إلى أنّ الأنطولوجيا اعتمدت أسلوب الحوار الشخصي، وذلك إيماناً من المؤلّف أن هذا النوع من التبادل بإمكانه توثيق شهادات شخصية تكشف عن التاريخ المعرفي للذّات الفاعلة لكلّ من النسويّات المشاركات وتعاملهن مع التوتّر القائم بين البحث المحارب والعمل الأكاديمي والنشاط النسوي. ويضيف لويس في مقدمة الأنطولوجيا أنّ قوّة الحوار وجهاً لوجه تكمن في قدرتها على كسر رتابة المونولچ الأكاديمي وقيود التحكيم التي تفرضها المجلّات الأكاديمية. بناءً عليه، يمنح الحوار فرصة للتأمّل المباشر في الأسئلة والاستبطان في سيرورة الإنتاج المعرفي لتصبح منهجية التفكير ذاتها صيرورة فعلية ومرجعية نسوية. ومن المهم الإشارة هنا أيضاً أنّ هذه الميزة المعرفية للحوار تجلّت في حوارٍ موازٍ مع المترجمة تقوى مَساعدة التي ترجمت حواري مع لويس من الإسبانية للعربية ببراعة وسلاسة فائقتين. تخلّلت عملية الترجمة مراسلات متواصلة بيننا للتداول في احتمالات المعنى الأدقّ لمفردات ومصطلحات إسبانية وليدة سياق استعماري محدّد لجغرافية الامبريالية الاسبانية مثل مفهوم "المسيتساخة" (Mestizaje) او التهجين العرقي، ولكن فيما يتعلّق بترجمة كلمة (Historia) في العنوان فقد آثرنا استخدام كلمة التاريخ بدلاً من المعاني الإضافية للكلمة مثل الحكاية أو القصّة، وذلك للتأكيد اللغوي على حقيقتين: "حكاية فلسطين بعدها ما خلصت" لأنّ التاريخ لم ينته بعد. ما زالت النساء من / في فلسطين يكتبن هذا التاريخ بكلّ فصوله وحكايته وقصصه.
"التاريخ الذي لم ينتهِ بعد"2
هل يمكنك أن تحدّثينا عن مسيرتك كأكاديميّة ومحاربة؟ كيف تكوّنت هاتان المسيرتان؟
لستُ متيقّنة من كوني محاربة، ففئة المحاربات تذكّرني بالمناضِلات المسلّحات أو الرفيقات اللواتي ضحّين بالكثير ليتمكّنَّ من الوقوف في وجه النظام. أما أنا فأعمل في وظيفة جيّدة وأتمتّع برفاهيّة أن أعيش حياةً مريحةً كما هي حياتي كأستاذةٍ جامعية في مؤسسة أكاديميّة متميّزة. إلّا أنني كبرتُ في حيّ أهله من الطبقة العاملة، ويشكِّل إحساسي بالطبقة المُهَمَّشة القاعدة التي ينطلق منها فكري السياسيّ. يتعيّن عليّ يوميّاً أن أتعامل مع التوتّر بين الوعي الاجتماعيّ والطموحات الرأسماليّة لنظامٍ أكاديميّ أبيض، يسخّر كلّ ما هو محارب لصالحه، بما في ذلك خطاب المقهورين.
محاضراتي وصفوفي كانت واحدة من المساحات التي تمكّنت فيها من التعامل مع هذا التوتّر، باستخدام منهجيّة تربويّة تتمّرد على الإستعمار المعرفي وتعزّز الخيال الناقد.
أنا من عائلة من طبقة العمّال والفلّاحين. كان أجدادي وجدّاتي فلّاحين لا يملكون أرضاً، وكانوا يعملون في حقول غيرهم من الفلسطينيين. والدي ميكانيكيّ متقاعد وأمّي ربّة منزل. لم ينهِ أيٌّ منهم الدراسة الابتدائيّة. كنّا أنا وأختي أوّل مَن دخلَ الجامعة من العائلة، ونعيش الآن نمط حياةٍ يشبه حياة الطبقة العليا والبرجوازيّة المدنيّة أكثر مما يشبه حياة جدّاتنا وأمّنا وعمّاتنا وخالاتنا. أو على الأقل، هذا ما تبدو عليه الأمور للنّاظر من بعيد. أمّا فعليّاً، فما يبدو وكأنّه قصة تقدُّم إيجابي يعكس في الحقيقة التغيّرات الاجتماعيّة التي مرّت بها عائلتي ضمن سياقٍ اقتصاديّ استعماريّ.
وكما جرى مع عائلاتٍ فلسطينيّة أخرى: لم يكن تركهم الفِلاحة وتحوّلهم إلى عمّال أو عاملات أمراً اختياريّاً، بل جاء نتيجةً لانتزاع ومُصادرة الأرض الفلسطينية منهم على يد الاستعمار الصهيونيّ.
أنتمي إلى أقليّة تسمّى "عرب الـ٤٨"، وهم الفلسطينيون الذين بقوا داخل الحدود التي وُضِعت سنة ١٩٤٨ أثناء النكبة. ورغم الاعتراف بهم كمواطنين إسرائيليين إلّا أنها مواطنة من الدرجة الثانية. كما أنّ هذه الجنسيّة جاءت نتيجة ترسيم حدود استعماريّة وليست نتيجة اختيار. ولهذا كنت دائماً مدركةً للعلاقة بين جذوري الطبقية وثقافتي، بكلّ ما تنطوي عليه الثقافة من لغةٍ وعاداتٍ وحدودٍ ومكانٍ وما إلى ذلك. كنت أشعر دائماً أنني مُصنّفة على أساس عرقيّ حتى داخل فلسطين.
أذكر في طفولتي أنني ذهبت مع عائلتي في زيارة إلى مدن ذات أغلبية يهوديّة، وكانت أمّي تقول لنا أنّه من الأفضل ألّا نتكلّم بالعربيّة. ولهذا لطالما تساءلت منذ كنت طفلة عن هويّتي. لماذا كان علينا أن نخفي حقيقة أننا نتكلّم بالعربية؟ لماذا هذا الخوف من أن نتكلّم بلغتنا؟
ولكنني أعتقد أن هذا الأمر بالذات كان خوفاً عاشه جيل أمّي. فقد وُلدوا جميعاً بين عاميّ ١٩٤٩ و١٩٦٦ في فترة الحكم العسكريّ الذي هيمن على الشعب الفلسطيني في إسرائيل. وُلِدوا وعاشوا في فترة كان يتوجّب عليهم فيها أن يطلبوا إذناً (تصاريح من الحاكم العسكري) لكي يتنقّلوا من مكانٍ إلى آخر. عاشوا وعانوا بشكلٍ مباشرٍ من قمع دولةٍ كانت في ذلك الحين عسكريّةً بشكلٍ رسميّ ومُعلن: إسرائيل. ومن هناك ينبع خوفهم الذي يمنعهم من دخول المساحة السياسيّة ومحاولة عيش حياة "هادئة".
مع ذلك أعتقد أن وضع جيلي كان مختلفاً، فقد تمكّنت أنا من دخول الجامعة وتمكّنت من اكتساب أدوات لمواجهة الدولة. هذا مهمٌّ بالنسبة لي لأنّه مكّنني من فهم أبعاد العنف المختلفة، ومسألة اللغة، ومعنى انتماء المرء إلى أقليّة فلسطينية أصلانيّة.
درست الصحافة في قسم الصحافة والإعلام والأدب الإنجليزيّ في الجامعة العبريّة في القدس. أذكر أنه في سنتي الأولى كنتُ وصديقتي ألاء يوسف الفلسطينيتين الوحيدتين في قسم الإعلام والإتصال الذي كان يضمّ مئتا طالب وطالبة في دفعتنا. أثناء وجودي ضمن مجموعة كهذه من الطلّاب – أغلبهم يهودٌ بيض – في تلك الفترة من عقد التسعينيّات، رصدتُ بشكلٍ مستمرّ أنّ عمليات التصنيف العِرقيّ ليست فكريّةً فحسب، بل اجتماعيّةً كذلك.
كنت أشعر أنّي مُستَبْعَدة من الحوارات، ولم يكن ذلك لأسبابٍ اجتماعيّة واقتصاديّة فحسب، بل لأسبابٍ ثقافيّةٍ أيضاً. ورغم وجود طلّابٍ فلسطينيين أكثر في بكالوريوس الأدب الإنجليزي، إلّا أننا كنّا ما نزال أقلّيّة. لم أتكلّم بالإنجليزية على الإطلاق خلال السنوات الثلاث تلك لأنني لم أسافر أبداً إلى الخارج. تعلّمت الإنجليزية من مشاهدة التلفزيون والأفلام. أذكر أنه كان عندي زملاءٌ يهود في محاضرات الأدب الإنجليزي وكانوا قادمين من بروكلين إلى المستوطنات (مستوطنون) وطبعاً كانوا ينتمون إلى خلفيّة ثقافيّة مختلفة. لم يكن عليّ تعلُّم لغةٍ جديدة فحسب، بل تعلُّم رموز ثقافية أخرى، وكان لهذا دورٌ مفصليّ في تطوّري السياسيّ والفكريّ. وهذا لا يعني أنني لم أكن أدرك العنصريّة أو العنف، ولكنني لم أكن أملك الأدوات التحليليّة اللازمة لَتفكيكهما أو شرحهما.
عدتُ بعد ذلك إلى مدينتي الطيبة، التي تقع في وسط فلسطين، لتدريس اللغة الإنجليزية في المدرسة الثانويّة. كما عملتُ في مجلّةٍ محلّيّةٍ أو بالأحرى في جريدة تابلويد، لكنّها لم تكن تجربةً جيّدة لأنه في تلك السنوات، كانت الصحافة الفلسطينية غير الحزبية ما تزال مرتبطةً بشكلٍ وثيق بالدولة وخصوصاً في الحصول على تمويل من مدخول الإعلانات الرسمية. كان هناك وما زال الكثير من الفساد.
قرّرت أنّه من الأفضل أن أركّز على دراسة اللغة الإنجليزية، وهكذا درست بين عامي ٢٠٠٠ و٤ ٢٠٠ درجة الماجستير في الأدب الإنجليزيّ في جامعة تل أبيب. كانت التجربة مماثلة لتجربة البكالوريوس: كنت المرأة الفلسطينيّة الوحيدة في أغلب المحاضرات. كانت مساحة مفصولةً عنصريّاً إلى حدٍّ بعيد.
أذكر أنّني رسبتُ في مادّتي الأولى حول النظريّة النقديّة، لأنّني لم أكن أعرف كيف ينبغي أن يُقرأَ إدوارد سعيد في تل أبيب. بالطبع، قرّرت بعد ذلك أن أكتب رسالتي عن الشِعر العربيّ الأميركيّ في الولايات المتحدة. كرّست فصلاً للشعر الفلسطينيّ الأميركيّ حيث تناولت قصيدةً عن مجزرة دير ياسين في القدس عام ١٩٤٨، كتبتها ليزا سهير مجاج، وهي شاعرة فلسطينيّة أميركيّة تعيش الآن في قبرص.
ظهرت هنا أسئلةٌ أخرى: كيف تُوصف مجزرةٌ في الفضاء الأدبي؟ وطبعاً ظهرت صدامات في التفسير مع بعض الأساتذة، وتحديداً بخصوص المصادر التاريخية التي استخدمتها. إحدى الأستاذات رفضت الشهادات الفلسطينيّة حول المذبحة وأصرّت على أن أُضَمِّن المنظور الإسرائيلي وأن أستشهد بمؤرّخين صهاينة أنكروا المذبحة. لم تكن المسألة بالنّسبة لي نزاعاً سياسيّاً فحسب بل مسألةً إبستمولوجيّة. لذلك قرّرت في الولايات المتّحدة أن أكرّس نفسي لدراسة الأدب الإثني. حصلت على منحة للدراسة في الولايات المتّحدة.
أذكر أنّ محاضرتي الأولى كانت عن نظريّة الحدود حيث قرأنا غلوريا آنزالدوا، وغيّر هذا الاكتشاف وجهة نظري جذريّاً لأنها تناولت مسائل اللغة والحدود وعمليّات التّمييز العنصريّ في الولايات المتحدة. عندما قرأت آنزالدوا للمرة الأولى إِندهشت بأوجه التشابه في تاريخ الحدود في كلٍّ من المكسيك وفلسطين، مثل تقسيم الأرض والشّعب في عامي ١٨٤٨ و١٩٤٨.
وجدتُ الكثير من نفسي في صوتها، وفكّرت: "إنه صوتي، إنّها ذاتي الأُخرى". الحقيقة أنّ لي ذاتين أخريين من المكسيك: فريدا كالو وغلوريا آنزالدوا. وجدتُ الكثير من نفسي في فريدا كالو بسبب إعاقتي الجسدية ورؤيتي الفنيّة، وفي آنزالدوا لأننا عشنا تجارب متشابهةً كذاتين تقاطعتا مع الحدود. في رسالتي للماجستير في الأدب المقارن تناولت نصوص آنزالدوا والكاتب الفلسطيني إميل حبيبي.
درستُ لاحقاً خلال مرحلة الدكتوراه حالة ولاية تشياباس جنوب المكسيك، فبينما كنت أتعمّق في أعمال آنزالدوا وأدرس الصراع في تشياباس، أدركت أنّ هنالك تشابهاً بين ذلك الصراع وبين الصراع في فلسطين: عنف الدولة، ومسألة النضال من أجل الأرض، ومسألة الحدود. أدركت أنّ مشكلة الأرض أساسيّةٌ في تشياباس كما هي في فلسطين. في السبعينيّات، حدث إضرابٌ مهمّ جدّاً في فلسطين للمطالبة بكلّ الأراضي المسروقة، لكن الدولة ردّت على المطالب بمذبحة، ماذا يحدث عندما يطالب الناس بأرضهم؟ كيف نواجه الدولة الاستعماريّة؟ تبرز حينها قضايا مثل الحكم الذاتي والعرق. لاحظتُ هناك أنّ التاريخ لم ينتهِ بعد، ونحن لسنا في ما يُسمّى الآن بفترة "ما بعد الاستعمار". حاليّاً، هُنالك أشكال من الاستعمار الداخلي. فلسطين وتشياباس هما الدليل على أن الاستعمار لم ينتهِ بعد.
قرّرتُ فعلاً أن أسافر إلى تشياباس لأرى ما كان يجري هناك، وفي وقت لاحق، كتبت رسالة الدكتوراه: "كتابة الأصلانيّ: أدب المايا المعاصر في تشياباس – المكسيك، والأدب الفلسطينيّ في إسرائيل". من الواضح أنّ هناك اختلافات ثقافيّة وتاريخيّة. ومع ذلك أعتقد أنّ دراسة هذه الظواهر من منظورٍ مقارن فيها فائدة كبيرة جدّاً، فممّا لا شكّ فيه أنّ هذه التجربة جعلتني أتجاوز حدود الدول وحدود نموذج الاستعمار.
ما معنى إقامة حوار بين فلسطين والمكسيك؟ ما هي الأشياء التي يمكن أن تكون مُشتَركة بين الشعبَين؟ كيف تعمل الدولة الاستعماريّة في هذه البلدان؟ في المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى تشياباس، تمكّنت من رؤية الدبابات، أي رأيت الوجود العسكريّ هناك. يحدث الشيء نفسه في فلسطين، فعندما يكون هناك مسيرات أو مظاهرات فإنّ الجيش يكون حاضراً دائماً. ومن هنا جاء اهتمامي بدور عنف الدولة لأنّه تعبيرٌ آخر عن الحكم العسكريّ. كما ذكرت سابقاً بعد تقسيم فلسطين في النكبة عام ١٩٤٨، تمّ تشكيل حكم عسكريّ. لذلك يهمّني أن أفكِّر بطريقةٍ تحرّريّة في العلاقة بين الدّولة والعنف، بين عدم المساواة والمساحات المُستَعمَرة، بين الهويّات والقمع.
بالإضافة إلى ذلك، أكرّر أنني مهتمّة بفهم معنى التمييز العنصري في المكسيك وفلسطين. من الواضح أنه يجب على المرء أن يكون حريصاً جداً في استخدام المصطلحات والتصنيفات مثلاً، فمفاهيم العِرق والغزو في المكسيك مرتبطةٌ بتاريخ آخر مختلف تماماً عن فلسطين. لذلك، وحتى نتمكّن من رؤية أوجه التّشابه بين هذه العمليّات، يتوجّب علينا أن نفكّر خارج البنية الإبستمولوجيّة الاستعماريّة وأن نفكّر متجاوزين حدودها. في عمليّة البحث والكتابة، نحتاج إلى مراجعة التصنيفات التي نعمل بها، ولذلك يتوجّب علينا نزع الصفة الاستعماريّة عن الإبستمولوجيا المُهيمِنة.
أنت متخصصة في الأدب المقارن وإحدى كاتباتك المُفَضَّلات هي عالِمة الاجتماع المغربيّة فاطمة المرنيسي، التي لسوء الحظ لم تُقَدَّر أعمالها بحقّ. ما هو دور الفنّ بشكلٍ عام أو دور الأدب بشكلٍ خاصّ في عمليّات إعادة بناء الروابط الاجتماعيّة؟
يتجلّى الفن في مساحةٍ رمزيّة. يمكن للفن رصد وتجسيد تاريخ آخر من خلال الاستعارة والسرديّات الأخرى والذكريات والأساطير. يوجد في الأدب الفلسطيني مفهوم دقيقٌ جدّاً هو "التشاؤل". هو مفهوم استخدمه إميل حبيبي في إحدى رواياته التي حملت عنوان "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" والتي تتحرّك في فضاءٍ ثالث على الحدود بين ماضي الشّعوب الأصلانيّة والحاضر الاستعماريّ. يرسم الخطوط العريضة لمفارقة المحو. في الأدب، في كلٍّ من تشياباس وفلسطين، وخاصّة في أعمال النساء، يمكننا ملاحظة المساحات الهرميّة، وليس ذلك فحسب بل يمكننا ملاحظة تقاطع أشكال مختلفة من الاضطهاد: العنصريّ والطبقيّ والجندريّ. وهذا لا يُلاحَظ في الأدب فحسب (حيث يكون مفهوم الحدود حاضراً دائماً) ولكن أيضًا في مسيرة الكاتبات. في الفنّ، باعتباره شكلاً من أشكال التعبير والتمثيل والمجاز، يمكننا التقاط أشكال مختلفة رمزية أو سيميائية لوصف أشكال مختلفة من الوجود والكينونة. تكمن إمكانات الفن في قدرته على تخيُّلِ عالمٍ آخر وبالتالي يمكنه أن يزعج النظام. من المثير للاهتمام ملاحظة ظاهرة الأدب المكتوب بلغة المايا لأنها تُظهرُ مساحةً من مقاومة الاستعمار. كما يسترعي الاهتمام أن نتساءل عن نوع الفلسفة الكامنة وراء هذه اللغة: ما هو مفهومُ الزمان والمكان في هذه الّلغة الحديثة المكتوبة بأحرفٍ لاتينيّة وما زالت تحافظ على فلسفات المخطوطات المرسومة يدوياً (كوديكس) قبل العهد الإسبانيّ؟ نلاحظ هنا أهمية الفنّ لأنّه يمكّننا من فهم قصص ومعارف أخرى عن عوالم أخرى، بطرق نظنّ أنّها قد اختفت ولكنها ما تزال موجودة.
قبل قليل جئتِ على ذِكرِ النكبة. يشير مجمل الادّعاء أو الطرح المُسمَّى بالحداثة / الكولونيالية إلى فهم الاستعمار كنظير للحداثة، أي فهمه على أنّه عنصر أساسيّ ومكوِّن للظاهرة الحديثة، وبهذه الطريقة يُنظر إلى الحداثة على أنّها نكبة. حتى إنها فكرةٌ يمكننا أن نجدها أيضاً في نقد والتر بينجامين، فهل يمكننا أن نعقد مقارنةً بين نكبة الشعب الفلسطيني وغزو القارّة الأميركيّة، ليس باعتبارها أحداثاً أو وقائع بل كعمليّات متواصلة (نهب الأراضي، تدمير "الآخر"، العنف الأسطوري)؟
بالطبع. ما زلنا نتحدّث في فلسطين عن نكبةٍ مستمرّة. حيث تُعْتَبَر اتفاقيّة أوسلو سنة ١٩٩٣ نكبة، إذ أننا فقدنا المزيد من الأراضي. أذكر أنني عندما وصلت إلى تشياباس قابلت العديد من الأشخاص ممّن لا يتحدّثون الإسبانيّة، وقلت لنفسي: "بعد خمسة قرون من الاستعمار ولا يتحدّثون الإسبانية". ثم فهمتُ أنّ عمليّة الغزو مستمرّة حيث أن تراث البُنى الإجتماعية والإقتصادية والسياسية التي فرضها الاستعمار ما يزال موجوداً.
ما تزال ذكرى الغزو حاضرة ويمكن ملاحظة ذلك من خلال قراءة بيانات القائد ماركوس من جيش الزاباتيستا للتّحرير الوطني (EZLN): نكبة القارّتين الأميركيّتين أثناء الغزو. في فلسطين نرى النكبة كلّ يومٍ مع المستوطنات والتوسّع الإستيطاني في أنحاء فلسطين التاريخيّة، وهي من منظور الدولة الصهيونيّة مظاهرٌ لتقدُّمٍ حديث. في حالة فلسطين، يمكننا أن نلمس وجود دولة عِرقيّة دينيّة. أمّا في أميركا اللاتينيّة فقد كانت العملية المُسمّاة ب "المستيساخة" (أي تمازج الأعراق والثقافات) مختلفة. ومع ذلك نرى في كلتا الحالتين نفس ديناميكيّة الموت: النكبة.
فيما يتعلّق بالحداثة في فلسطين، أودّ أن أشير إلى أنّ دولة إسرائيل ربطت منذ البداية بين أصلها الصهيوني وخطاب الحداثة: الشّعب اليهوديّ شعب متحضّر. نحن اليهود الأوروبيون سنجعل أرض الميعاد هذه تزدهر. وهكذا، تخيّلت الرؤية الصهيونيّة فلسطين كأرضٍ فارغةٍ لتحقّق فيها يوتوبيا الحداثة. لم يُنظر للفلسطينيين أبداً على أنّهم أشخاص، بل كانوا يُعتبرون كائنات بدائيّة، أو ببساطة لم يكن لهم وجود.
كان هنالك إنكار شبهٌ تامٍّ منذ البداية للحقوق الجماعيّة للفلسطينيين كشعبٍ أصليّ ولازمَ هذا الإنكار إحساس عميق بالفوقية الأوروبية. خطاب الحداثة لليهود الصهيونيين دأب على التّعالي على الفلسطينيين. كما كان يُنظر إلى الحداثة على أنها "بياض". من الواضح أنّ هذا "البياض" قائمٌ على الأساس الإيديولوجيّ للبُنية الاجتماعيّة لدولة إسرائيل التي ترى، في صورتها عن نفسها، أنّها الدولة الأكثر أوروبيّةً في الشّرق الأوسط. طبعاً يُنتج هذا "البياض" الإنسان الفلسطيني بقدر ما يُنتج الإنسان اليهوديّ المتحدّر من أصول عربيّة باعتباره "الآخر". يجب ألّا ننسى أن هنالك تراتبيّة عِرقيّة بين أبناء الشعب اليهوديّ في إسرائيل.
إذن ما معنى أن تكون المرأة فلسطينيّةً حديثةً وسط هذه البُنية العنصريّة؟ أن تكون فلسطينيّة ملحدة أو مسيحيّة كاثوليكية (وطبعاً هنا رَبط المسيحية بأوروبا ومحو جذورها في فلسطين)، ملابسها على الطراز الأوروبيّ وقِيَمها ملائمة للعادات الغربيّة. هذا الخطاب راسخٌ في الأذهان. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن الصهيونيّة تُعتبر قوميّةً حديثة. يحمل خطاب الحداثة أيضاً خطاب العلمانيّة والمُواطَنة وما إلى ذلك. فمفهوم دولة إسرائيل كدولة استعماريّة يرتكز على كل خطاب الحداثة لأنه يسمح لليهود بأن يُظِهروا للأوروبيين أنّهم، وهم النّاجون من معاداة الساميّة الأوروبيّة، قادرون أيضاً على أن يصبحوا حديثين.
يجب أن نتذكر أن اليهود كانوا دائماً فريسةً للمذابح في أوروبا، أيّ أن علاقتهم بالأوروبيين علاقة مُعقّدة ومتناقضة. ومن هنا ينبع اهتمامهم ببناء حداثةٍ يهوديّةٍ بيضاء لتكون نسخة تقلّد أو تنافس الحداثة الأوروبيّة المُتَخيَّلة.
هل يمكنك أن تعطينا لمحةً سريعة عن مشهد النسويّة العربيّة العابرة للحدود؟
أعتقد أنّ النسويّة وصلت إلى العالم الثالث من خلال الحركات الوطنيّة كما جرى في أميركا اللاتينيّة. يبدو لي أنّ أغلب النسويّات في العالم العربي من الجيل الأول، ركّزنَ في المقام الأوّل على قضية النوع الاجتماعي داخل إطار القوميّة.
يمكننا القول إنّ هذا ما جرى في عقد السبعينيّات أثناء توطيد القوميّة في الدول العربيّة التي كانت حديثة التكوّن بشكلها القوميّ. لا يمكننا تجاهل دور المرأة المصريّة في العشرينيّات في مؤتمر نساء العالم الذي عُقِدَ في روما، أو تجاهل دور هدى شعراوي (١٨٧٩-١٩٤٧)، التي أسّست الاتحاد النسائيّ المصريّ، ودور سيزا نبراوي (١٨٧٩-١٩٥٨). نسويّات مصريّات كنّ جزءاً من جبهة وطنيّة معادية للاستعمار. إذا تحدّثنا عن النسويّة العربيّة العابرة للحدود، فيمكن ربطها بحركات العالم الثالث خلال الستينيّات. يبدو لي أن الطموحات وحّدتهن أكثر مما وحّدهنّ الحوار.
تأثير الكاتبات العربيّات أكثر وضوحاً حاليّاً. فاطمة المرنيسي (١٩٤٠- ٢٠١٥) مثلاً، التي كتبت كثيراً عن الإسلام كان أثرها أكبر خارج الحدود، ونفس الكلام ينطبق على الكاتبة الجزائريّة آسيا جبار، فقد كان لرواياتها وكتاباتها الإثنية أثرٌ على حياة النساء في الجزائر خلال فترة الاستعمار الفرنسيّ والثورة الجزائريّة. خلقت كتاباتها تحوّلاً في أدب ما بعد الاستعمار في العالم الفرنكوفوني والعربيّ.
من ناحية أخرى، أعتقد أن النسويّات الفلسطينيّات يسهمن بشكلٍ كبير في بناء هذه النسويّة العابرة الحدود، لأنّ فلسطين تُعتبر قضيّة عابرةً للحدود من الدرجة الأولى. أعتقد أنه ونتيجةً للشتات فإنّ هنالك حواراً بين الفلسطينيّات الموجودات في الخارج. هناك حاجة إلى بناء وتعزيز هذا الحوار مع تيّار النسويّة السوداء والنسويات في جنوب أفريقيا، ومع نسويّات الشعوب الأصليّة للولايات المتحدة وأميركا اللاتينيّة، ومع النّساء المهاجرات في أوروبا، إلخ... ومع ذلك، لا بدّ من القول أنّ هذا الحوار لا يزال يدور داخل حدود الفضاء الأكاديميّ.
نحتاج إلى تعزيز البُعد العابر للحدود لهذا الحوار من خلال بناء قواعد إجتماعية وناشطات نسويّة تخترق الحدود. على سبيل المثال لا الحصر، يمكنني أن أذكر حالة مغنية الراب الفلسطينيّة البريطانيّة شادية منصور التي تعاونت مع مغنّية الراب التشيليّة آنا تيجو في أغنية "نحن الجنوب". هذه الأغنية نشيدٌ نسوي للتعبير عن التضامن بين الشعوب الأصلانية في الجنوب العالميّ. مثال آخر من الفضاء الأكاديمي هي النسويّة الفلسطينيّة رباب عبد الهادي، وهي أستاذة وباحثة في الدراسات الإثنية في سان فرانسيسكو، وقد عملت أيضاً على موضوع بورتوريكو ونظّمت تبادلات أكاديميّة وورش عمل بين نسويّات من السكّان الأصليين واللاتينيّات في الولايات المتحدة مع نسويّات فلسطينيّات.
هنالك جيلٌ جديدٌ من النسويّات العربيّات ينتجن نصوصاً وأعمالاً فنّيّة وغيرها من الأمور الممعنة في تجاوزها للحدود بسبب ظروف معيشتهن بين العوالم واللغات. من ناحية أخرى، أودّ أن أذكر أن هنالك توتّراً شديداً بين نسويّة الدولة والنسويّة القوميّة. النسوية ليست كُلّاً متجانساً: هنالك "نسوية متعلّمة"، أيّ أكاديميّة، وهي نسويّةُ الكاتبات والمثقّفات والباحثات، ولكن هنالك أيضاً نسويّة يوميّة، في عالم العمّال، نسويّة منْ لم يتمكّنوا من الوصول إلى الجامعات. يمكن لنسويّة الشّارع أن تكون عالميّةً أيضاً. وبالمِثل لدينا نسويّة رسميّة، نسويّة الثامن من آذار، نسويّة للاستهلاك، نسويّةٌ سخّرتها الرأسماليّة لصالحها.
أريد أن أذكر أيضاً أنّ أعمال فاطمة المرنيسي كانت اكتشافاً رائعًا آخر بالنسبة لي. لقد غيّرتني. كانت تملك موهبة الكتابة على الورق عن النِّساء الأمِّيات وذاكرتهن الاجتماعيّة، وتمكّنت من تصوير نضال النساء في أعمالها دون الوقوع في فخّ الفضول الاستعماريّ مع أنّها إتُهمت بالاستشراق الذاتي. صحيح أنّها كانت تنتمي للطبقة العليا وكانت تعيش في قصر، ولكنّها كانت تملك أدوات سوسيولوجيّة مكّنتها من تفكيك الرموز الاجتماعية-الثقافية. كتبت عن الدين، وعن دور التلفزيون، وعن الديموقراطيّة. كتبها: "نساء على أجنحة الحلم: مذكّرات طفلة من الحريم"، و"شهرزاد تذهب للغرب: ثقافات مختلفة، حريم مختلف"، هي كتب سيرة ذاتيّة، وفي أحدها فصلٌ تتحدث فيه عن تمثيل المرأة في الفنّ في الشرق وفي الغرب. في الشرق تمثيل المرأة في الفن هو الاستبعاد: الحريم. لا تظهر النساء في الفضاء العامّ. في الفن الغربي، يتمّ رسم النساء كأشياء سلبيّة، صامتة على الدوام. بالنسبة لها، فإن هذا التمييز هو سمة من سمات الاستشراق الذي كان يتخيّل المرأة العربيّة دائماً على أنّها فريسة الحريم.
لكنّها أصرّت أننا إذا أردنا التفكير في قضيّة النوع الاجتماعيّ فإنّه يتوجّب علينا أن نحارب من أجل مشاركة المرأة في الفضاء العام. يمكن لفاطمة المرنيسي أن تقدّم تفسيراتٍ ممتازة من خلال الخطاب الأيقوني. كما أنّها كتبت كتاباً ممتازاً عن الحجاب. ومع ذلك، فإن بعض الأوساط التي لا تتفق مع أُطروحاتها سخرت منها، قائلةً إنها ليست مختّصة في العلوم الدينيّة، واختزلت عملها ببضعة تعليقات سوسيولوجيّة أو أنثروبولوجية بسيطة. مع ذلك، فقد احتفتِ النّسويّات العربيّات بأعمالها لأنها فتحت باب النقاش في قضية الحجاب الاجتماعيّة. كان عملها متعدّد التّخصصات بحقّ لأنه لم يبخل في التعبير عن التاريخ وعلم الاجتماع واللاهوت. على مستوى الإبداع الأدبيّ، فإنّ أعمال فاطمة المرنيسي مثيرة للإعجاب: صورها، وموضوعاتها، وأسلوبها. أعتقد أنّنا يمكن أن نسجّل أعمالها على دربِ نسويّةٍ أدبيّة.
- 1. https://voravi.com/producto/feminismos-a-la-contra/
- 2. حوار أُجري في بروكسل في ٢٩ آذار ٢٠١٨. ترجمته من الإسبانية تقوى مَساعدة.