لغةُ جامعةِ الفقراء

السيرة: 

مترجمة ومدرسة لغة انجليزية وعربية للمستوى المدرسي.

شكر‬ ‫واعتراف‬: 

Translation edited by Ghiwa Sayegh 

اقتباس: 
ليال ع.. "لغةُ جامعةِ الفقراء". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 8 عدد 1 (24 يناير 2022): ص. 113-117. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 09 مايو 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/347.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (553.11 كيلوبايت)

transgressive_translations_15

مريم مزرعاني

كان تِيهُنا عظيمًا في السنة الثانية من دراستنا في حرم كلّية الحقوق في الجامعة اللبنانية، حين استشفّينا في مادة القانون الإداري الخاص أنّ ثمّة فارقاً بين المصطلحات: الـ syndicat والـ ordre والـ association. شَعَرنا أو أحسَسنا بأن ثمّة فارقاً، لأنه وفي كلّ مرّة عدنا فيها إلى حزمة الأوراق التي كتبها أستاذ المادة بخطّه العربي الملتوي – لدواعي جمالية كما أزعم حُسنًا – لم نجد بين كلماته التي تكتظّ بها الأسطر المُتراصّة إلا نظيرًا واحدًا للكلمات الثلاث الأعجمية تلك وهي: النقابة. يعني اسمحوا لي بأن أكون صادقة معكنّ ومعكم، كنت حينها وما زلت ويبدو للأسف أنني سأبقى freelancer أو متعاقدة بالساعة، ولذلك لم أكن مطّلعة على تاريخ الحركة النقابية العالمية الفسيحة بغير اللغة العربية، وبالتأكيد لم أكن متيقّنة إلى أن ضخامة هذا التاريخ تحمل معه فيضانات من المصطلحات، كان لها أثر مزلزل على ماضينا القومي ضمن الدول البرجوازية التي تسمّي نفسها عربية الهوية والانتماء والهوى والشرف والإخاء إلخ (رصّوا صفوف الكلام هنا...). لكنّ الدكتور الجامعي والعضو الفخري في حزبٍ طائفي عريق، بطبيعة الحال في ممارساته الانعزالية، لم يكن في منهاجه ما يكفي من أوراق ليشرح لنا تلك التباينات. اكتفى الدكتور العزيز بالقول "اللي ما بيعرف فرنسي يا ريت يتعلّم لأن ما رح فيك تفهم القانون اللبناني أو أي قانون بلا لغة"، وأضاف الى كمشة أوراقه أو الـ cours، هامشًا كتبَ فيه "في القانون الفرنسي هناك فارق بين syndicat و ordre" ... وحفظنا المُقرّر – عفواً الـ cours – وتفَرَّغ أستاذٌ آخر في ملاك الجامعة... وبقينا على تيهنا مواظبين.

ما نوّه إليه د. القانون، بشبه الجملة العربيّة تلك، التي ختم فيها الدرس واستغفر الله لهُ ولنا، هو أن مشروع الدولة القوميّة في عالم الجنوب هو فعل ارتهان اقتصاديّ لا يكتمل الا بالتذلّل اللغوي. والتذلّل هنا هو واقع أن قاعة جامعة بأكملها تعجّ بطبقات اجتماعية مختلفة، لم يهتزّ لها ساكنٌ أمام واقع تغييبي يُفرض علينا وبشكل فجّ. تلك الألفاظ كناية عن واقع برجوازي نحَتَ معالمه تاريخ نضال عمّالي، ومرّ في مراحله المتقدّمة بوقائع قانونية كحقّ الإضراب الذي انتزعه عمّال فرنسيون في القرن التاسع عشر، وأخرى ثورية كحرب التحرير الجزائرية، تضاف اليها مثلاً لا حصرًا انقلابات شعبية كـ"شتاء عدم الرضا" البريطاني الذي أعقب إرث نضال عمّالي عريق في كل بقاع جغرافيا الإمبراطورية البريطانية. بالعودة إلى قصّتنا، إن تلك المصطلحات وترجماتها هي زبَدُ الالتحام التاريخي الذي انفجر ضمن مجتمع المُستَعمِر، وشكّل بنية المؤسسة القمعية المدعوّة بالدولة القومية هنا عندنا في المستعمرات. إن منهاج الجامعة اللبنانية في كلّ مفاصله، يحاول جهده تطبيع اللهفة نحو التماثل مع لغة المصدر باستخدام اللغة العربية تارةً والخروج عنها في معظم الأوقات بأقواصٍ وأظفار وجملٍ مهجّنة تعبّر عن جدارة أكاديمية قلّ نظيرها في صفوف الطبقة العاملة. كلّما زاد تهجين لغتك كلّما زاد جاهك، وتقلّصت فرص ملاحظتك لاختلاف موجود في الترجمة التي تشبك الأصيل (الأجنبي) بالوكيل (طالب جامعة الفقراء ولغته)، فتبقى تائهًا – Lost in Translation – وفخورًا في تيهِك "المتحضّر".

بين الأصيل والوكيل – إن هذه الثنائية التي تموت في حبّها الدراسات القانونية والسياسية، وتلك العنجهية الأبوية التي تفرض أنصاف حوار بين الأستاذ/ة وطلابه/ا، في مؤسسة معنية بتقييم وترويض الشرائح الاجتماعية "الأقلّ حظًا"، من خلال معرفة مُقنّنة وجامدة ومحدّدة، هي سمات أساسية في بناء الدولة القومية، ما بعد جلاء الاستعمار الإداري والعسكري في شكله المباشر أو ما تسمّيه كتب البرجوازية الوطنية بالاستقلال. لذلك نرى أن الجامعة الحكومية في معظم نماذج الدولة القومية (التي تلي الاستعمار) هي وليدة طبقتها الحاكمة،1

فالمؤسسة التعليمية هي ركيزة العنف الرمزي الذي يشكّل الثقافة القومية الأبوية.2 لكن هنا السخرية عزيزتي القارئة وعزيزي المُتصفِّح، إن الجامعات تتأسس كأداة للعنف الرمزي من فوق (بالمعنى الذي تجدونه في كتابات فوكو وبورديو، ربما على حسب علمي)، ومن ثم تشهد الصروح نفسها انتفاضات قاعدية وعمّالية تكسر شوكة قمعها، فتصلح فيها قليلا قبل أن تعود لتقع في يد ليبراليين جدد وهكذا دواليك... لكن الجامعة اللبنانية قصتها مختلفة. إنها من بين القصص النادرة التي استبق فيها العمّال من مواقعهم بتحالف – أكيد لن يتكرّر كما يظهر في الساحة اللبنانية اليوم – مع شرائح طالبية تواضعت وتبنّت واقع هُويّتَها المُستعمَرة ببعدها الطبقي، فثارت على مؤسسات التعليم العالي الاستعمارية، حيث كان يركد كومبرادور البلاد سالمًا منعمًا وغانمًا مكرّمًا. الجامعة اللبنانية كانت ثمرة نضال عمّالي بدأ من ردهات دار المعلّمين في خمسينيات القرن الماضي، وانتهى به المطاف في مواجهات طاحنة ومُعسكرة في شوارع العاصمة، أنتجت بلبلة على مستوى السلطتين اللبناينية والفرنسية، أدّت إلى الاعتراف الرسمي بالجامعة من قبل السلطات البرجوازية (السلطة الحاكمة يعني – هم نفس الطبقة للتأكيد فقط) عام 1961.3 لكن ما جعل مشروع هذه الجامعة ثوريًا في مهده، هو أنه حمل معه خطابًا يزاوج ما بين النضال الطبقي والتحرّر من الاستعمار، فتجلّت هذه الرؤية بالمطالبة بتعليم المواد باللغة العربية، لا سيّما تلك المتعلّقة بالسياسة والقانون والتاريخ، التي كانت حكراً حينها (وربما لا زالت بطريقة أو بأخرى) على الناطقين بالإنجليزية وبالتحديد الفرنسية في لبنان. كان هذا المطلب هو الأكثر استهجاناً من قبل السلطة الحاكمه وآبائها الفرنسيين، ما دفعهم إلى إتباع الاعتراف بجامعة العمّال والفقراء بالـ Filière Francophone de Droit – أو كلّية الحقوق الفرع الفرنسي – هناك حيث يذهب اليوم ممثلو التَحَضُّر البرجوازي اللبناني المعاصر. فكرة تعليم مادة لها علاقة ببنية الدولة القومية المسخ بمنطق لغةٍ قد يفهمها مُعظم الناس، كان يثير جنون السلطات الحاكمة. لكن لم تتوقف حفلة الجنون هنا، فطالبت الجموع العمّالية والطالبية بتعليم اللغتين الفرنسية والإنجليزية، كلغة ثانية وبالمجّان لأبناء الطبقات الاجتماعية غير المحظيّة اقتصاديًا. نعم، إن الجامعة اللبنانية كانت في إحدى مفاصل خطابها التحرّري، تخوض نضالاً لغوياً أو ربما نضال لأجل بلورة لغة تقارع يوميات القمع الطبقي والإقصاء الثقافي، الذي عاشته الجموع بعد مهرجان الاستقلال البرجوازي العتيد.

قبل الختام، أقول للجميع وخوفًا من تأفّف زميلٍ أو زميلة في الجامعة اللبنانية الذين/ اللواتي قد يقع إصبعهم/نّ على عنوان المقال سهوًا، إن قصّة الجامعة اللبنانية كما ذكرتُ سابقًا ليست كنظيراتها من الجامعات العامة، فعلى الرغم من أنها بدأت من صفوف العُمّال، إلا أنها وبعد الصعود المفترس لسياسات الأموَلَة وإعادة الإعمار والهندسات البنكية الجديدة، التي قادتها حكومات وبرلمانات تعاقبت منذ 1989، عادت جامعة الفقراء إلى موقعها الطبيعي ضمن المسار الرأسمالي "الطبيعي" لأي مؤسسة تعليمية. عادت إلى قبضة أحزاب السلطة وقيم وأخلاقيات برجوازياتها العتيدة المتجددة وحلمها الأميركي الطويل. تحوّلت جامعة الفقراء إلى جامعة "الوطن"، بما تعنيه الوطنية من قمع ذكوري وانحياز طبقي ومراوغة استعمارية.

هل التكلّم عن تاريخ النضال اللغوي لأكبر جامعة في الكيان اللبناني ترفٌ معرفيّ؟ لا، لأن تيهَنا بين كلمة syndicat ومصطلح نقابة، وتجهيلنا المقصود والمُهندَس له مالياً، لما يعنيه الفارق ما بين نقابة مهنية وأخرى عمّالية، هو جزئيةٌ لا غنى عنها في فهم التحالفات والجبهات العبثية التي قامت بُعيد انتفاضة تشرين 2019. إئتلاف "النقابة تنتفض"،4 تحالف "المبادرة درابزين/ وطني"5 والتشتّت العضوي في صفوف "مهنيات ومهنيين"6 وغيرها الكثير من التشكيلات الهُلامية السياسية العابرة للطبقات والأيديولوجيات بقيادة الطبقة الوسطى العليا والبرجوازية الصغيرة ("لِحَقي"7 مثالاً)، إلى جانب مآثر النوادي العلمانية وميوعة التحالفات الطالبية والانحدار التدريجي والمستمر لخطاب المعارضة في صفوف طلاب الجامعة اللبنانية ("تكتّل ط.ج.ل."8 مثالًا)، كلّها حملت خطاباً يتمسّك في جوهره بخديعة تفترض تماهيًا بين مصالح البرجوازية الصغيرة والطبقة الوسطى ومصالح العمّال. الخطاب الذي خرج من بطن الثورة المضادّة لانتفاضة تشرين، هو ثمرة سياسة لغويّة مُنظّمة مآلها الأسمى هو إسكات العمّال (معظمهم لا ينتمون إلى فئة المواطنين)، بإلحاقهم بالخطاب البرجوازي، حُبّاً وطواعيّة وإكراهًا في آن. اللغة والخطاب، تكوينات سياسية تنبع عن الواقع وتعيد تنظيمه. في هذا الصدد نقول، لا يمكن لخطابٍ علماني اجتثاث القمع الطبقي كما لا يمكن لخطاب تحالفات برجوازية انتخابية، تمثيل معاناة العمّال وإن وضعت نفسها تحت مسمّيات نقابية.

في الخاتمة أقول، اللغة فضاء يكتنف كل جبهات معاركنا القائمة، ما يجعل نضالاتنا ضمن معترك اللغة وبمحاذاته مسؤوليةً تاريخية.

  • 1. أنظر/ي تاريخ الجامعة الأردنية وجامعة دمشق وجامعة القاهرة في نشأتها، قبل الاحتجاجات الشعبية في الـ 1900 وبعدها.
  • 2. هنا يتفق معي كل من فرانز فانون (1967) وجون جوردن (1982) وجايمز بولدوان (1963) وبيل هوكس (1994) وربما يشهد باتريس لومومبا على ذلك أيضاً.
  • 3. أنظر إميل شاهين (2011) وعماد الزغبي (2002)، وإن أردت/ي إذهبي وانظري في أرشيف جريدة "السفير" أو/و في أرشيف الحركة الطلابية في المكتبة العامة (إن حالفكِ الحظ ووجدتها مفتوحة). لجُرعة من الفكاهة السوداء راجع أو لا تراجع، أحلام الوزير الأسبق حميد فرنجية بجامعة لبنانية تليق بمقام البرجوازية اللبنانية بين الأمم والامبرياليات.
  • 4. "النقابة تنتفض" هو ائتلاف يضمّ العديد من المجموعات الناشطة التي نشأت وتكتّلت خلال انتفاضة تشرين، يهدف كما يعلن، إلى "تعزيز العمل النقابي وطرح برنامج بديل والوصول إلى مراكز القرار في نقابة المهندسين". (محرّرة النسخة العربية)
  • 5. المبادرة/ "درابزين 17 تشرين" هي إحدى التكتّلات التي نشأت في ظلّ انتفاضة تشرين وهي كما تعرّف عن نفسها، "شبكة من عشرات الهيئات الآتية من فضاءات السياسة والساحات والمناطق والمهن والمجموعات المتخصّصة التي عملت أو تأسّست خلال الانتفاضة المستمرّة حتى اليوم". "تحالف وطني" هو "تنظيم سياسي يطمح إلى إعادة بناء دولة المواطنة التعددية الديمقراطية السيّدة والعادلة". (محرّرة النسخة العربية)
  • 6. تجمّع "مهنيات ومهنيين" ولد في ظلّ انتفاضة تشرين ويضمّ عاملات وعاملين في قطاعات مختلفة، يضع نشاطه في إطار "مواجهة الطبقة الحاكمة" كما يصف. (محرّرة النسخة العربية)
  • 7. "لِحقّي" هو، كما يعرّف عن نفسه، "تنظيم سياسي – اجتماعي ملتزم الانحياز التام للناس والحقوق، ويعتمد القاعدية واللامركزية والديمقراطية التشاركية"، وهو من التنظيمات التي نشأت في ظلّ انتفاضة تشرين. (محرّرة النسخة العربية)
  • 8. "تكتّل طلاب الجامعة اللبنانية" هو "تجمّع طلّابي وطني مستقلّ يضمّ طلّاب وخرّيجي الجامعة اللبنانيّة من كافّة الفروع والكليات. يُعنى بقضايا أهل الجامعة وطلّابها على وجه الخصوص، من الفئات المجتمعية كافة ولاسيّما الأكثر تهميشاً، بحقوقهم/ن الأكاديمية، الماديّة، والمعنويّة، سعيًا إلى جامعة وطنية منتجة مستقلة ومجتمع عادل" (نقلا عن صفحة التكتل وليس تبنيا للتوصيف). (محرّرة النسخة الع
ملحوظات: 
المراجع: 

Baldwin, James. “A Talk to Teachers.” The Saturday Review, December 21, 1963.

Fanon, Frantz. Black Skins, White Masks. Translated by Charles Lam Markmann. New York: Grove Press, 1967 [1952].

hooks, bell. Teaching to transgress: education as the practice of freedom. New York: Routledge, 1994.

Jordan, June. “Moving Towards Home.” Poem. 1982. https://20thcenturyprotestpoetry.wordpress.com/2013/10/30/june-jordans-m...

إميل شاهين. الجامعة اللبنانية ثمرة نضال الطلاب والأساتذة. دار الفارابي، 2011.

عماد الزغبي. الحركة الطلابية في لبنان: خمسون عاما من النضال ١٩٥١-٢٠٠١. مؤسسة دار الكتاب الحديث، 2002.