سياسات الخيال

تحذير‬ ‫المحتوى: 

تحذير عن‬ ‫المحتوى‬‫!

محتوى جنسي صريج، لغة حادة، تصوير للعنف.
مناسب لجماهير ناضجة.

السيرة: 

جايا شارما ناشطة نسوية كويريّة شاذّية وكاتبة مقرّها في نيودلهي. كجزء من منظمة غير حكومية نسوية عملت على قضايا الجندر والتعليم لأكثر من عشرين عاما. وشاركت أيضا بصورة مكثفة في الدورات التدريبية الجنسانيّة للمجموعات العاملة مع النّساء الريفيّات، بما في ذلك على روابط الجنسانيّة والعنف على أساس الجندر. باعتبارها ناشطة كويريّة، شاركت في تأسيس منتديات كويريّة في دلهي لا تزال تنشط فيها. وهي أيضا إحدى العضوات المؤسّسات لـ Kinky Collective، وهي مجموعة تهدف إلى رفع مستوى الوعي حول التّقييد والتّأديب والهيمنة والخضوع والسادومازوخيّة. يمكنك الكتابة إليها على jayajulie@gmail.com

اقتباس: 
جايا شارما. "سياسات الخيال". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 3 عدد 2 (2017): ص. 147-153. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 18 أبريل 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/politics-of-fantasy.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (682.41 كيلوبايت)
ترجمة: 

ناشطة نسوية فلسطينية، مترجمة، ومدّونة على suhmatiya.wordpress.com، مقيمة في بيروت. تخرّجت بإجارة في العمل الإجتماعي والتنظيم المجتمعي من الجامعة اللبنانية الأميركية عام 2016. تعمل حالياً كمنسقة الخط الساخن للجنسانية في مشروع الألف، جمعية معنية بشؤون الجنسانية والجندر والعدالة الإنجابية، كما أنها عضو في تعاونية الضمّة النسوية.

هناك خيالات لا تتناسب بشكل جيّد مع سياساتنا، ولكنّها موجودة معنا. فليكن هذا المكان غير المريح حيث تصطدم خيالاتنا وسياساتنا بعضها بالبعض مُنتجًا، تحديدَا لأنّه غير مريح. هذا هو السؤال الذي أودّ استكشافه هنا. أنا أكتب كناشطة نسويّة كويريّة، شاذّيّة،1 من داخل الحركة النسائية في الهند. ربما أشعر أنني قادرة على أن أكون جزءا من تقاليد الحركة النسائية، على الأقل هنا في الهند، بسبب هذا الموقع، وأن أمارس النّثد الذّاتي بشكل مفرط أحيانًا.

أستخدم كلمة “الخيالات” للدّلالة على التّعبير عن أو التّصرّف حسب الرّغبة. وبيد أنّنا جميعًا على دراية بمفهوم الرّغبة في شكلها العلني المتمثّل في السيناريوهات أو الخيالات الجنسيّة المتخيلة، أعتقد أن الرّغبة وما يتبعها من الخيالات، تعزّز علاقتنا بالواقع في كلّ مجال آخر من مجالات الحياة – سواء من العلاقات إلى الخيارات الوظيفية، أو من الأيديولوجيا إلى السياسة. أودّ أن أبدأ مع الخيالات الجنسيّة ثمّ انتقل لاحقا إلى الخيالات كبعد من الجوانب الأخرى من الحياة.

أخبرتني صديقة نسويّة أدرت معها مقابلة من أجل مقال كتبته عن البورنوغرافيا، عن تجربتها في مشاهدة أفلام إباحيّة ذات ليلة. لقد وجدت نفسها تبحث عن بورنوغرافيا محدّدة جدا، عن زنا المحارم بين ابنة ووالديها. يبدو أن جميع المواقع الإباحية العادية التّي تصفّحتها كانت شديدة الحساسيّة على هذا الموضوع. كانت هذه المواقع تميل إلى القيام بإصدارات قريبة ومشابهة، مع “ابنة الزّوجة” أو “زوج الأمّ،” ولكنّها لم تكن قريبة بما فيه الكفاية لنوع زنا المحارم الذّي أرادت أن تشاهده. ولا، لم تكن تبحث عن أفلام اباحية تشمل ممثّلين/ات أطفال. هي لم ترد ذلك أبدا، كما أوضحت. وعندما عثرت على ما كانت تبحث عنه باستماتة، تحدّثت عن الإثارة الغريبة التي شعرت بها لدى رؤيتها عدد المشاهدات التّي حصل عليها الفيديو. “ناس مثلي،” فكّرت.

وهناك صديقة نسويّة أخرى قابلتها أخبرتني أنّها تستمتع بقراءة ما سمّته بـ “بورنوغرافيا التردّد.” وأوضحت لماذا يثيرها هذا النوع من الأفلام الإباحية: “إنّ إعطاء الأولوية للرّغبات الجامحة (فوق تردّد الأشخاص) هو أمر تحريريّ. ما يعجبني ليس التّردد، بل التّغلب عليه – أن يصبح الجنس حول الرغبة المطلقة فقط هو أمر مثير جدّا.” متحدّثة عن مشاعرها لدى مشاهدتها هذا النّوع من الأفلام الإباحيّة، أضافت: “أشعر أنّ هناك عنصرا من التّابو في مجرّد فعل مشاهدة الأفلام الإباحيّة، وهو شعور لم أتغلّب عليه تماما. أنا أشاهد أفلاما إباحية أجدها مثيرة للغثيان قليلا بعد أن أصل إلى النّشوة.”

يمكن للمرء أن يسعى إلى توفير الطّمأنة وأن يستجيب بالقول “لا بأس،” كلّ الخيالات مقبولة. ولكن كيف يمكن توفيق أكثر خيالاتنا قتامة وإثارة للقلق، مع سياستنا؟ كنت ميسّرة شريكة في جلسة عن الـ 2BDSM مع طلاب/طالبات القانون في جامعة في دلهي كجزء من عمل 3Kinky Collective، وهي مجموعة غير مموّلة تسعى إلى خلق الوعي عن الـBDSM في الهند. لقد انزعج العديد من الطلاب/الطّالبات للغاية عندما قلنا أن جميع الخيالات الجنسية مقبولة، بما في ذلك خيالات الاغتصاب. ومن ثمّ، بدا أنّ خيالات الاغتصاب أصبحت موضوع بقيّة الجلسة. كان هناك اقتناع عامّ بأنّ القول بأن مثل هذه الخيالات مسموحة، ولا سيّما قول ذلك في المجال العام، سوف يؤدّي إلى عبور النّاس ذاك “الخطّ الرفيع” من الموافقة إلى انتهاك الموافقة، وهو تعبير استخدم عدّة مرات. وعلاوة على ذلك، فإن خيالات الاغتصاب هي تعبير عن النظام الأبوي، فكيف يمكننا أن نقول أنّها لا بأس بها، أو أنّها مسموحة؟

وقد شددنا على أنّه ليس من المقبول فقط أن تكون للنّساء خيالات عن الاغتصاب، بل أنّ من المقبول أيضا نسبة إلى الرّجال أو أيّ أشخاص من أيّ جندر، سواء كانت هذه الخيالات عن القيام بالاغتصاب أو التّعرّض له. ثانيا، تنبع الخيالات الجنسيّة من اللّاوعي، الذي لا يطيع أفكارنا عمّا هو مقبول أو غير مقبول سياسيّا. ثالثا، عدم الحديث عن هذه الخيالات لم يساعدنا حتى الآن. ولا تزال ثقافة الاغتصاب تزدهر. رابعًا، خيالات الاغتصاب هي مجرّد خيال. لا يعني ذلك أن المرء يريد الاغتصاب أو التّعرّض له. وإلّا، فإنّها تتوقف عن الانتماء إلى عالم الخيالات. قد نرغب في تمثيل خيالات الاغتصاب كجزء من اللّعب، ولكنّ ذلك مختلف تمامًا عن الرّغبة في أن تتحقّق الخيالات في ما يسمّى بـ”الحياة الحقيقية” خارج عالم الايروتيكيّة. لذلك، قد أرغب في أن يتمّ تمثيل خيالات الاغتصاب التّي أفكّر فيها إذا وجدت آخرين/أخريات موافقين/ات على تمثيل هذا الخيال معي. هذا لا يعني أنّني أريد أن أتعرّض إلى الاغتصاب.

إنني أشارك النقاش الذّي تمّ في الورشة هنا بطريقة جافّة إلى حدّ ما، ولكن كان هناك الكثير من الذّهاب والإّياب، وكان التّوتّر في الغرفة واضحا. وكانت الحجج التي قدمناها أعلاه مستعملة ومقدّمة في كثير من الأحيان في ورش العمل وندوات مجموعة Kinky Collective. ومع ذلك، كان هناك شيء تعلّمناه بعد الجلسة، عندما كنت جالسة أشرب فنجان قهوة كنت بحاجة إليه مع سيغ، صديقي ورفيقي من مجموعة Kinky Collective ، في صالة المقصف في تلك الجامعة الغنيّة بالموارد.

ما فاجأنا بجِدّته في هذا التفاعل هو ما يلي: في نهاية الجلسة، سأل/ت أحد/إحدى الطلاب/الطالبات كيف يمكن لجميع الخيالات أن تكون لا بأس بها في حين أنّها نتاج التّكييف الاجتماعي. وبدلا من تكرار ما كنا قد استعملناه في جدالنا من قبل عدّة مرّات، أدركنا أن الخيالات مرتبطة مع الأشياء الاجتماعية، في نفس حين أنّها تنبع من اللاّوعي. ومع ذلك، فإن الصلة بين الخيالات والتّكيفات الاجتماعية ليست مبسّطة كما تصوّرها الأبويّة الموروثة والمبطّنة والتّكيف الاجتماعي المتجلّيين في الخيالات التّي قد يتمّ تحقيقها بطرق غير توافقية. واحدة من طرق اشتغال الخيالات مع العناصر الاجتماعية، هي أنّنا نتخيّل ما هو مستحيل، غير قانوني، أو ممنوع. وبشكل عامّ، فما يقول المجتمع أنّه “غير مقبول” من المرجّح أن يكون ما نراه في خيالاتنا على وجه التحديد. التّابوهات لا تسعى فقط إلى الحدّ من الرّغبات، التّابوهات تخلق الرّغبات. كما يقول أحد المحلّلين: “إنّ التحريم يضفي صبغة إيروتيكيّة على المحرّم4“.

ومع محاولتنا أن نضع البعض من المعنى في نقاش المقبول وغير المقبول، اتّضح لي أنّ الجلوس وتناول القهوة في مقصف الجامعة لا يمكنه أن يكون خيالي (إلّا في صورة ما لم أقدر على تحمّل كلفته، ربّما). ولكنّ الجلوس عارية واحتساء قهوتي في مقصف جامعي قد يكون خيالا (على الرغم من أنّه ليس كذلك بالنّسبة لي)، لأنّ ذلك سيكون ممنوعا. تعليقا على هذا، قال سيغ أنّه بالنسبة له، وهو من عائلة نباتيّة مارواريّة،5 فتناول الدجاج على طاولة الطعام في المنزل قد يكون خيالا. في المرّة الوحيدة التّي جلب سيغ فيها دجاجا سرّا إلى المنزل، وتمّ الانتباه لذلك، غًسل المنزل بأكمله لكي يستعيد نقائه.

من ثمّة أدركنا أنّنا يجب ألّا نقع في فخّ كون الخيالات ثنائيّة بين المقبولة وغير المقبولة. فمن المرجّح جدّا أنّ محتوى الأوهام ليس مقبولا، وهذا هو بالضّبط موضوع خيالاتنا، نظرا لأنّ المجتمع لا يقبله. النّقطة التّي أرغب في الوصول إليها هي أنّ الخيالات، مثل الأحلام، هي ما هي عليه، بغضّ النظر عن سببها.

ولا يقتصر الأمر على ما يعتبره المجتمع الرئيسي محرّما. أودّ أن أقول أنّه بالنّسبة للنّسويات، ما تعتبره النسوية من التّابوهات، قد يكون أمرا مثيرا كذلك بالنسبة لنا – لا توجد علاقة بسيطة بين خيالاتنا وسياساتنا. قد لا يكون الأمر مقتصرا على فكرة أنّ خيالاتنا منيعة عن سياساتنا؛ بل قد تكون هذه الخيالات أحيانا بمثابة نوع من التّمرد ضدّ سياستنا، لأنّه، كما قلت أعلاه، من طبيعة الرّغبة أنّنا نرغب بما هو ممنوع. كنسويّات، نحن نهزأ من معظم التّابوهات التي يسعى المجتمع السّائد لفرضها علينا. فما الذّي يمكنه أن يكون أكثر إثارة من اللّعب مع ما تعتبره الحركة النسويّة محرّما؟ وبطريقة أشمل من تحدّي ثنائيّة الخيالات المقبولة وغير المقبولة، أملنا كنسويّات كويريّات وشاذّيات هو أن نحقّق خيالاتنا بحماسة وموافقة متبادلة مع وبين راشدات/ين أخريات/آخرين، وعلى الأقلّ، ألّا نحكم على أنفسنا والأخريات/الآخرين على أفعالهنّ/م التّوافقيّة.

أود الآن أن انتقل إلى كلمة الخيال لا كخيالات جنسيّة، ولكن كبعد من اللّاوعي الذّي يساهم في تشكيل جميع جوانب الحياة. وفي هذه المرحلة الانتقالية أودّ أن أتحدث عن الثنائيات الأخرى التّي تتحدّاها الخيالات – تلك الموجودة بين اللّذيذ والمقرف.

أنا أختبر في كثير من الأحيان نسخا مختلفة من اللّذة/القرف في داخلى ومن حولي. عيون مدّمعة، أنوف سائلة تقريبا، وأفواه تقوم بصوت “سي سي” وتستمرّ في ابتلاع تلك البوتشكا6 الحارّة. أو أن أكون مغرمة بجنون بذلك الشخص ذي/ذات السياسة السيّئة للغاية. أو أن أعود مرارا وتكرارا إلى ذلك/تلك العشيق/ة في حين أنّني أحاول تركه/ا. ذلك النّوع الرهيب من الفرح لدى العثور على مساوئ في النّفس وفي الآخرين/الأخريات، بما في ذلك في العثور على أخطاء سياسيّة في الأصدقاء/الصّديقات. أو أن أجد بعدا من الإثارة الجنسيّة في أحد/إحدى القادة السياسيين/ات المعروفين/ات بإجرامهم/نّ، والذّين/اللّواتي نكرههم/نّ بكلّ ما أوتينا من قوّة. كلّ هذه الأشياء لذيذة/مقرفة، أليس كذلك؟

في ما يزيد عن سنوات ثلاث في التحليل النفسي كشخص يخضع للتّحليل، أو كزبونة، كما لا يزال يشار إلينا في الهند، أجبرت مرارا وتكرارا على التّواصل مع أنواع مختلفة من القرف اللّذيذ. أشعر أنّ معرفة جديدة قد بدأت في الظّهور، رغم أنّها كلّفتني البعض من خيالاتي ومن أموالي أيضا، وهي أنّ المرء بإمكانه أن يُثار بأشياء تبدو كمجرّد معاناة شخص ما. نعم، الإثارة، نفس الكلمة التي قد نستخدمها للإثارة الجنسية الحاصلة من الخيالات، مكان نعرف أنّه زاخر بهذا الاختلاط بين اللّذيذ والمقرف. ففي نهاية الأمر، الرّغبة والاشمئزاز شريكا سرير.

تحدي ثنائيات الخيالات بين المقبولة/غير المقبولة، و اللّذيذة/المقرفة يؤدّي إلى كسر ثنائيّة دقيقة بين الخيال والواقع نفسه. فالواقع دائما ما يعمر بالخيال. ما نقوم به/نقوله/نرغبه/نطمح إليه مرتبط بلاوعينا أكثر ممّا نتصور.

أعتقد أنّ استخدام مصطلح الخيال كبعد من اللّاوعي أمر بالغ الأهمية في معظم الحالات التّي نعيشها ونختبرها حولنا. على سبيل المثال، بغضّ النظر عن مدى الواقعية البادية في اختيارنا لشريكنا/تنا الجنسيّ/ة الرومانسي/ة، فإنّ جميع الميولات والعلاقات تتمحور في خيال يلاقي خيالا. لا عجب في أنّنا قد نقول للآخرين، أو على الأقل قد نودّ أن نكون قادرين/ات على القول، “ما الذّي ترى/ترين في هذا الشخص، بحقّ ربّك؟” وربّما طرح علينا أصدقاء/صديقات صادقون/صادقات السّؤال نفسه. من يدري ما نراه في الشخص الآخر؟ ونادرا ما يكون في الموضوع أيّ معنى. لماذا اختيارنا أو انجذابنا لهذا الشخص بالتحديد؟ أو لماذا، رغم كل الأسباب الوجيهة التّي تُلزمنا بترك العلاقة، نجد أنّنا نتمسّك بها باستماتة؟ ولماذا يمكن لفكرة الزواج أن تمارس مثل هذا التأثير علينا رغم انتقادنا المخلص والحماسيّ لهذه المؤسسة؟ لماذا قد ترتفع الغيرة وتسيل في عروقنا مثل السّم رغم عمق التزامنا السّياسي بتعدّد الشّركاء/شريكات؟ لماذا قد تحوّل أكثرنا التزاما إلى كلاب تتشمّم الأشياء بحثا عن أدلّة لتأكيد شكوكنا؟

أنا لا أقول بأنّ بُعد الخيال الموجود في هذه الحالات سهلٌ على المعرفة. نقطتي هنا ليست أنّنا نفهم ماهيّة بُعد الخيال الموجود في هذه المواقف، ولكن فقط أن نعترف بوجود هذا البعد من الخيال.

العبارة التي أستخدمها هنا هي “بُعد من الخيال”، وليس الخيال في حدّ ذاته. وذلك لأن هناك الكثير الذي نعرفه بالفعل، بما في ذلك أشياء عن الحب والزواج والعلاقات الأحاديّة والسيّاسات الكلّية وما إلى ذلك. وهي أشياء متعلّقة بالواقع المادّي والأيديولوجيات المرتبطة بالجندر والطبقة والطائفة والدين والجنسانيّة و)عدم( القدرة الجسديّة، وما إلى ذلك. ما أحاجج من أجله هو الحاجة إلى الاعتراف بأنّ هناك أيضا بعدا من الخيال ومن اللّاوعي في المشهد.

أودّ الآن الجمع بين المعاني المختلفة للخيالات )الجنسيّة وغيرها( لكي أحاجج أنّ اختبار قوّة الخيال، بطريقة عاجزة أحيانا، هو أمر صعب ولكنّه مثمر. فالاعتراف بالبعد الخياليّ للأفعال سيقوّينا كنسويّات من نواح عديدة، كما أعتقد.

أوّلا، إن الحديث عن سياسات الخيالات سيساعد على مزيد من التفكيك في شعار النّسوية القائل أنّ “الشّخصي هو السّياسي،” كما آمل. كما أشارت صديقتي العزيزة أبيكشا فوهرا، بالنّسبة لنا النسويات، مقولة “الشخصي هو السّياسي” قد عملت في اتجاه واحد على حساب الآخر. فمن ناحية، هناك تأثير السّياسي على الشّخصيّ. ومن ناحية أخرى، هناك تأثير الشخصيّ على السّياسيّ، وهو تدفّق اتجاهي نحن بحاجة لاستكشافه أكثر.

ثانيا، عندما يبدو أنّ خياراتنا أو رغباتنا تتعارض مع سياستنا، فإنّ الاعتراف بوجود خيال ما في المعادلة، سيساعد في اعتقادي، على تقليل الشعور بالذنب والعار الذّين لا يساعداننا في أيّ حال على التّصرف بطريقة جيّدة أومُختلفة. فمن شأن هذا الاعتراف أن يجعلنا أكثر رحمة، ليس فقط نحو أنفسنا، ولكن أيضا تجاه صديقات/أصدقاء ورفاق/رفيقات نسويّات/ين أخريات/آخرين. ونحن نعلم أنّ إطلاق الأحكام يضرّ التّضامن بشكل كبير. أنا لا أسعى إلى تخفيض المعايير أوالتخفيف من السياسات لدى الأشخاص ولو لمدّة دقيقة. فالصّراعات على الجبهات الشخصية/السياسية، داخلها وخارجها، ستستمرّ. ولكنني أعتقد أنّنا سنأتي إلى هذه الصراعات من مكان مختلف.

وثالثا، إنّ السياسات التّي تكون أقلّ حكما وأكثر قبولا للّاوعي قد تجعلنا أيضا أكثر انفتاحا على الخيالات الجنسيّة التّي كانت ستبقى مضطهدة خلافا لذلك. إن سياستنا قد تجذّرنا أخلاقيا، بحيث يصير بإمكاننا، لدى وجود الموافقة، أن نؤدي الخيالات التّي قد تبدو متعارضة تماما مع سياساتنا، مثل تلك التّي تتجاهل التبادليّة والكرامة.

رابعا، أعتقد أن الوجود في هذا الفضاء غير الموجود في نطاق السيطرة أو المنطق بكامله، حيث تصطدم الخيالات بالسياسات، يمكّننا من تحدّي الإطار العقلاني المفرط للنسوية (ولكلّ الأيديولوجيات التّقدمية). نعم، عقلانيّ على الرغم من العاطفة والوجدان. فالوعي بالفوضى داخلنا يمكّننا من التّواصل مع الفوضى التّي نسعى لفهمها والتأثير عليها. وهذا هو جوهر ما أسمّيه سياسات الخيال. وبإمكان ذلك أن يساعدنا على التساؤل عمّا إذا كانت لدينا الموارد المفاهيمية أو الأطر اللازمة لفهم المشكلة المطروحة تماما، وتبعا لذلك، ما إذا كانت لدينا استراتيجيات سياسيّة للتعامل معها بفعالية. باختصار، فإنّني أحرّض على الانتقال من سياسة اليقين إلى سياسة الشك.

أخيرا وليس آخرا، بإمكان الخيالات أن تضيء على السّياسة بالمعنى الأوسع للكلمة. أنا أفكر بشكل خاصّ في الجاذبيّة الواسعة للأيديولوجيات أو القادة الذّين يجعلون أجسامنا تقشعرّ خوفا وانزعاجا. إنّ إطارنا الحالي للتحليل يميل إلى تمييز عوامل مثل خيبة الأمل السياسية والدّعاية الكاذبة والدّفاع عن الامتيازات والتغيرات الاقتصادية المدمّرة، وما إلى ذلك. واستنادا إلى هذا التحليل، نحن نكافح باستخدام الحقائق والمزيد من الحقائق والحجج الأيديولوجية، التّي نعرف جيّدا أنّها لم توصلنا إلى مكان بعيد. فهل يمكن لإضافة منظور الخيال واللّاوعي أن يساعدنا في نضالاتنا السياسية الكليّة أيضا؟ وإذا ما تواصلنا مع الطرق التّي يمكن للخيالات أن تدفعنا بها ,تسيطر علينا، ربّما يمكن لذلك أن يساعدنا على معرفة ما يمكن أن يثير مؤيّدي/ات القادة السياسيين/ات الذين/اللّواتي يروّجون/ن للتّعصب بلا هوادة. قد يكون ذلك من فعل خيال جماعي؟ هل هناك خيال عن الثّقة في المشهد؟ كما تشير جاكلين روز، وهي محلّلة نفسيّة نسويّة، فإنّ عنصرا حاسما في انتصار ترامب قد يكون وهم الثقة عن الأدوار الجندرية والجنسانية – الرّجال هكذا، والنّساء هكذا.7 قد يكون الموضوع متمحورا في ذلك الانطباع الشّاسع عن الثقة المطلقة، اليقين، وفي تلك الشخصية اللامبالية التّي التّي تناشد اللاوعي؟ شخصيّة الأب، ربّما؟

بإمكان عدسة الخيال أن تساعدنا أيضا على فهم الكراهية تجاه “الآخر.” في كتابه “إنعاش الذكورة: القومية الهندوسية والعنف وعزل المسلمين الآخرين،”8 يكتب توماس بلوم هانسن عن الكيفية التي ينسب بها إلى “الآخر” “التّمتع المفرط الذي يسرق تمتعنا ويمنعنا من التمتع الكامل بطريقتنا الوطنية الحياة” (ص. 150). النقطة الحرجة هنا ليست فقط أنّ “الآخر” يتمتّع، ولكن أنّ تمتّعه يسرق تمتّعنا. هذا الخيال المتمحور حول حرماننا من التمتع هو ما يعطي شحنة الإثارة المطلوبة. وبالاستناد إلى عمل سلافوي جيجاك، فيلسوف التحليل النفسي، يقول هانسن: “إنّ صورة “الآخر” القوية والمليئة بالرّغبة.. تتميّز دائما بسحر التّمتع المفرط. فالمجتمعات دائما ما تتخيّل الطرق الخاصّة التّي يتعذّر الوصول إليها والتّي يتمتّع بها الآخر في الحياة – كيف أنّ “الآخر” يستمتع أكثر” (ص. 151).

وهناك أيضا دور الخيال في الدفع نحو الأيديولوجيات المتطرفة القائمة على الدّين المنظّم. بالمقارنة مع الحيثيّات الأخرى، فإنّ الأرضيّة لتحقيق الخيالات تتميّز بالغنى. كما يتأمّل سودهير كاكار، المحلّل النّفسي والكاتب، في كتابه “ألوان العنف،”9 فإن الأيديولوجيات القائمة على الدّين هي أكثر بدائية، وهي غنية بالرموز والخرافات، وأكثر قدرة على تلبية البحث عن المعنى، في عالم يبدو عبثيّا.

نحن نعطي مؤيدي/ات الزّعماء الاستبداديين والأيديولوجيات المتطرفة كل الحقائق والحجج التي لدينا “ولكنّ” دعمهم/نّ لا يتغيّر. قد يكون هذا المكان من “لكن” عاملا مساعدًا على فهم حدود “الحقائق” التّي نقدمها لهم/نّ. فهل هي مثل الـ”لكن” التّي تعرّضنا لها مرارًا وتكرارًا في حياتنا الخاصة؟ قد لا نصل أبدا إلى قاع “لكن.” ومع ذلك، فإنّ قيمتها النّظرية تكمن في كونها على وجه التحديد مكان تمزّق، حيث تظهر الطبيعة المقسّمة لذاتيّاتنا. إنها نقطة التّحول من قابلية التفسير إلى غير القابليّة، ومن العقلانية إلى غير العقلانية. فهي تحمل القدرة على وصلنا مع هذا المكان من عدم التّنظيم، من الحيرة، وربما من العجز – مكان ذو احتمالات معرفيّة. نقطة “لكن” هي عادة نقطة نهاية مناقشة ما. فهل يمكن جعلها نقطة بداية الاستكشاف؟

بإمكان هذا الاستكشاف الذي آمله أن يتضمّن مسألة ما إذا كنّا نسعى، كنسويّات/ين أو مؤيدين/ات للقادة الاستبداديين، إلى الشعور بالتّجاوز، بتجاوز فرادتنا وضياعنا، سواء في الحبيب/ة، أو في الشخصية السياسية أو الأيديولوجية التّي نحبّها.

 

  • 1. عُرّبت هنا مفردة “كينك” الدّالة على الممارسات غير النّمطيّة ذات الطابع الجنسي كالتّقييد والتّأديب، والهيمنة والخضوع، والسادومازوخيّة، ضمن أخرى.
  • 2. مجموع الحروف الأولى التّي تختصر ممارسات التّقييد والتّأديب والهيمنة والخضوع والسّادومازوخيّة.
  • 3. بالنّسبة لمجتمع التقييد والتأديب والهيمنة والخضوع والسادومازوخيّة في الهند، تعمل هذه المجموعة على منصّة الكترونيّة، وتقوم بورشات عمل، ومهرجانات سينيمائيّة، وجلسات دوريّة للحديث عن الشّاذّيات بأمان. لرفع الوعي خارج هذا المجتمع، تقوم المجموعة بندوات، مؤتمرات، ورس=شات عمل، وغيرها، لصدّ الصور النّمطيّة عن الشّاذّيات والحديث عن الموافقة، كذلك على طريق الانترنيت:
    http://kinkycollective.com/, https://www.facebook.com/kinkycollective/, https://twitter.com/thekinkygroup.
  • 4. Lacan on Love: An exploration of Lacan’s Seminar VIII, Transference by Bruce Fink, Polity Press, 2015.
  • 5. مرتبة “متوسّطة” في نظام المراتب في الهند، يشتغل عموما في إذارة الأعمال والتّجارة.
  • 6. البوتشكا أوالغولغوبا هي كرات مدوّة ومقليّة، مكوّنة من الطّحين ومملوءة بماء حارّ وأشياء أخرى حسب مكان أكلها في الهند.
  • 7. https://www.theguardian.com/commentisfree/2016/nov/15/trump-disaster-mod...
  • 8. “Recuperating Masculinity: Hindu Nationalism, Violence and the Exorcism of the Muslim ‘Other’” by Thomas Blom Hansen, Critique of Anthropology, Vol 16, Issue 2, pp. 137 – 172, 2016.
  • 9. The Colours of Violence by Sudhir Kakar, Viking, 1995.
ملحوظات: