أزمة النوع الاجتماعي في الغرب وإنتاج السَدُوميّ الشرقي

السيرة: 

باتريك حداد هو طالب ماجستير في قسم اللغة الإنجليزية في الجامعة الأميركية في بيروت. تخرّج مع شهادة باكالوريوس في الأدب الإنجليزي من الجامعة الأميركية في بيروت في عام 2016، مع تركيز على مجالي الكتابة الإبداعية ودراسات الجندر والجنسانية. يشمل مسار البحث الحالي لديه دراسات الترجمة، والنهضة، والحداثة.

‫ ‫الملخص: 

وضعَتْ نقاشاتٌ حديثة حول “المثليّة العربيّة” مسألة إنتاج خانةٍ لهذه الهويّة ضمن إطار “الهيمنة الإبستيميّة” الأوروبيّة، ملقيةً بذلك اللّوم على الكتّاب النهضويّين الّذين اعتمدوا المفاهيم الأخلاقيّة الفيكتوريّة نقلاً عن نظرائهم الغربيّين، كما على النشطاء “العربيّين” من مجتمع الميم (المثليّين/ات، ومزدوجي/ات الميل الجنسي، ومتحوّلي/ات الجنس ومتغيّري/ات النوع الاجتماعي) المنخرطين في مجال عمل المنظّمات غير الحكوميّة المتّسم بالنيوليبراليّة. ظاهريًّا، يتشرّب الطرفان من مصفوفةٍ مرتبطة بالنظام القائم على أساس الغيريّة الجنسيّة المنسجمة مع التعبيرات السائدة، وهي غريبةٌ في الأصل عن مجتمعاتهم. تطرّق نقّاد أدبيّون مثل خالد الرويهب وجوزيف مسعد وكتّاب رائدون في مجال المثليّة الجنسيّة وعصر النهضة، إلى الارتباط الحثيث بين الحداثة العربيّة، والجنسانيّة، وتفكيك الاستعمار. ولكن، وعلى الرغم من سعيهم هذا، فقد بيّنوا الأمر من خلال رسم ديناميّة سلطة تبقى فيها النظرة إلى أوروبا كمقاطعة، ولا إعادة فيها لوضع سياق الخطاب في تاريخه الأطول ضمن السيرورة التاريخيّة للرغبة بين الشرق والغرب. إن هدفي من هذه الورقة هو تبيان أمثلة محدّدة، ولكن لها دلالاتها المهمّة، عن التفاعل بين “الغرب” و”الشرق” في ما يتعلّق بمسألة الاتّصال الجنسي المثليّ، في محاولةٍ لفهم النزعة إلى إظهار الشرق كمكان سَدوميّ بجوهره. إلى ذلك، أسعى إلى مساءلة المحطّات التاريخيّة للجنسانيّة “العربيّة” والحداثة، وهي محطّات أصبحت بحكم المسلّم بها في الكثير من النقاشات. لذا، سأناقش ديناميّة سلطة مناقِضَة لتلك التي عرضها جوزيف مسعد في كتابه اشتهاء العرب، وتُسائل في المقابل حججًا ما قبل استعماريّة وما بعد استعماريّة على صلة ببروز رهاب المثليّة في السياقات المشرقيّة.

الكلمات المفتاحية: 
The Nahda
Homosexuality
Modernity
Joseph Massad
Desiring Arabs
LGBT Rights
NGOization
لبنان
اقتباس: 
باتريك حدّاد. "أزمة النوع الاجتماعي في الغرب وإنتاج السَدُوميّ الشرقي". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 3 عدد 2 (2017): ص. 194-205. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 23 أبريل 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/occidental-gender-trouble.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (451.81 كيلوبايت)
ترجمة: 

Maya El Ammar is a feminist journalist and activist who has experience supporting civil society organizations in the field of media and communications, as well as leading training sessions on issues related to gender and feminism. Maya contributes to various media outlets as a journalist and translator. She currently produces her own feminist opinion videos and articles in collaboration with Daraj Media platform, in parallel to her full-time job as media campaigns manager at Crisis Action organization. She holds a BA in journalism and an MA in communications studies. She previously managed KAFA's communications department and led nationwide feminist media campaigns.

cover-issue-6-2.jpg

Sex, Desire, and Intimacy 2017 ©

Artwork: Amy Chiniara

مع نشر اشتهاء العرب لجوزيف مسعد، اتُّهم نشطاء مجتمع الميم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بتبعيّتهم للإمبرياليّة عبر اكتفائهم بتبنّي مصطلحات “غربيّة” تُعرّف عن جنسانيّتهم، وإنشائهم منظّمات غير حكوميّة تدافع عن حقوق مجتمع الميم، الأمر الذي يصفه مسعد بالدّعم المُطلَق للممارسات النيوليبراليّة والإمبرياليّة. صحيحٌ أنّه يجدر بنا التطرّق إلى مسألة الأنجَزَة، إلا أنني مهتم أكثر في هذا البحث بالغوص في ثنائيّة “الأمميّة المثليّة” مقابل “الخانات الحقيقيّة للرغبة.” ومع اكتساب الخطاب المتعلّق بحقوق المثليّين زخمًا أكبر في لبنان، كشف النزاع الأخير بين المنظّمات المدافِعة عن مجتمع الميم ورجال الدّين المسلمين السنيّين (ومعهم الإكليروس الماروني) صراعات إديولوجيّة محليّة تطرح علامات استفهامٍ حول تجاهل مسعد لجميع الرجال، سكّان البلد، الّذين يعرّفون عن أنفسهم كرجال مثليّين متجاوزين الهويّات الجنسيّة المحلّية.

وعليه، ومن أجل تحقيق الهدف من هذا البحث، أجادل تاريخ الرغبة المذكور كحقيقة في كتاب اشتهاء العرب، وفكرة أنّ خانة “المثليّ” موجودة فقط في المشرق بسبب النيو-كولونياليّة “الغربيّة.” سيتخلّل بحثي مراجع عديدة في معرض زيارتي لمحطّات تاريخيّة محوريّة بغية وضع سياقٍ كامل للأسئلة التي لا تزال مشروعة اليوم، ولم يكن مسعد قد تطرّق إليها؛ وهي تحديدًا: إلى أي مدى زمني يعود تاريخ الرغبة الجنسيّة وإدانة “الغرب” لها، وكم استمرّ، وهل لم يكن هناك “فاعلون إمبرياليّون من السكّان الأصليّين” متورّطون في مشروع الحداثة والجنسانيّة “العربيّتين”؟

بدايةً، يصف مسعد في سرده التاريخي في اشتهاء العرب محطّةً تاريخيّة من تاريخ الاستعمار، وهي اجتياح نابوليون لمصر، والتي ارتبطت بديناميّة سلطة بات لها طابعٌ جنسي بين المستعمِر والمستعمَر. وفي هذا التوصيف، تقع المشكلة الأولى التي أراها، وهي متّصلة بنقطة البداية. فبالنسبة إلى مسعد وخالد الرويهب، إنّ حقبة الجنسانيّة “العربيّة” التي ارتبطت فيها تصويرات التعبير الجنسي بالتشعّبات السياسيّة لم تنطلق إلّا في أعوام القرن التاسع عشر. وبالتالي، فإنّ بحث الرويهب لم يتضمّن أو يربط بشكلٍ وافٍ بين التوصيف التاريخي “للشرق” كـ”منحرف” وظهور “المثلي الجنسي” في أوروبا. أمّا بالنسبة إلى مسعد الذي حدّد انطلاقة هذا التاريخ مع إمام في باريسللطهطاوي، فلم يأخذ في الاعتبار محاولات كتّاب عرب في التأسيس لمشروع حداثوي قبل مئتي عام من ظهور “الأمميّة المثليّة.”

بالطبع، ما سبق لا يكفي.

إنّ منهجيّة سبر تاريخ الجنسانيّة بدءًا من الانطلاقة الملموسة للاستعمار، أي مع اجتياح نابوليون بونابارت لمصر، هي، للأسف، منهجيّة ناقصة، ذلك لأنّها تُمركز تلقائيًّا خطاب الجنسانيّة في أوروبا. وبالتالي، تظهر وكأنّها تنتزع من “الشرق” قدرته على الفعل والتأثير في الخطاب والسرد، أو حتّى على تأدية دور المشارك. من هنا، إنّ دوري الضمني هو تشجيع القيام بالمزيد من الأبحاث حول تاريخ الرغبة الجنسية، والنهضة، والحركات الاجتماعيّة المتعلّقة بالجنسانيّة اللّااستعماريّة والتي لا تتعامل مع “الغرب” أو أوروبا كلاعبٍ أساسي.

من هنا، إنّ جزءًا من المراجعة التي أقترحها يعتمد على نقد ما يُنظر إليه على أنّه عصر “النهضة” في النقاشات الجارية حول “المثليّة العربيّة،” بما أنّ الإطار الزمني المُعتمَد، أي بين اجتياح نابوليون في أواخر القرن الثامن عشر والتحرّكات العربيّة المناهضة للاستعمار في نصف القرن العشرين (وهو الفهم السائد للإطار الزمني للنهضة العربيّة)، يستند بجوهره على المعرفة الإبستيميّة الأوروبيّة في تناول هذا النقاش.

ولكن، ومن خلال هذه الورقة، وفي حين أناقش المحطّات الأساسيّة في تاريخ الرغبة بين “الشرق” و”الغرب،” غير أنّني أقترح أيضًا إعادة التفكير في سرديّات تاريخيّة مختلفة (للجنسانيّة، والحداثة، والاستعمار) عن تلك التي نتعامل معها كمسلّمات في معرض أبحاثنا. وبشكل خاصّ، أتحدّث هنا عن الحجم الكبير لتأثير صورة “الشرق المتوحّش” (ومن أبرز صفاته الجوهريّة بالنسبة إلى الغرب السَدوميّة و”اللّواط”) في تشكيل سرديّات الفرنسيّين والبريطانيّين حول “الشرق” لدرجةٍ وصلت إلى تسجيل وجود “أزمة نوع اجتماعي” حقيقيّة – والتعبير منقول عن جوديث بتلر – حيث الفروقات في التعبير المُجندَر عن الآخر خلقت نوعًا من القلق والإرباك داخل مصفوفة النظام القائم على الغيريّة الجنسيّة والمنسجم مع التعبيرات السائدة.

لقد كان بالإمكان ملاحظة “أزمة نوع اجتماعي” نشيطة قبل عقودٍ من بداية توصيف “المنحرف” كمرض من الناحية الطبيّة، بحسب جينيالوجيّة الجنسانيّة لفوكو، وكان ليعود ذلك بالكثير من الانعكاسات على النقاشات المرتبطة بالرغبة “العربيّة،” أبرزها أنّه ينبغي إعادة التفكير في بدايات التشخيص الطبّي للممارسة المثليّة كمرض من أجل تضمين المسألة آفاقًا تاريخيّة عالميّة أوسع. كما ينبغي الأخذ في الاعتبار وجود ديناميّة سلطة في هذا الخصوص منذ بدايات حقبة الحروب الصليبيّة. وقد وضعت هذه الديناميّة “الشرق” في موقع الغرض الجنسي بالنسبة إلى الغرب، وكرّست النظر إلى الشرقيّين كأشخاص مثيرين للرعب ومبالِغين في رجولتهم ومدافعين مخصيّين عن الأرض. كخلاصة، يجب إعادة التفكير جديًّا في دعوة مسعد إلى القطيعة مع الهيمنة الإبستيميّة للتشكيلات الغربيّة (بمعنى الانتماء إلى نوع معيّن من الجنسانيّة)، من أجل إتاحة المجال أمام قراءة تاريخيّة تدرك كيف رُكّزت الملامة على السَدوميّ عند كل محطّة تاريخيّة.

جاء إنتاج هذه الورقة كثمرة تفاعل بين ثلاثة مصادر أساسيّة أتناولها كمصادر رائدة في تحديد نقاط تاريخيّة مختلفة في تاريخ الرغبة. بدايةً، سأنظر في معطياتٍ متعلّقة بحقبة الحروب الصليبيّة في المنطقة المشرقيّة تتضمّن ما يشير إلى أذواق وميول سكّان المنطقة الجنسيّة آنذاك. بالإضافة إلى ذلك، سأبحث في الروايات الخاصّة باستعمار مصر والخطاب الذي أثارته، لأنهي سردي التاريخي مع النصّ الأوّل الذي يتفحّصه مسعد، وهو إمام في باريس للطهطاوي.

سوف أوضّح بعض المصطلحات التي أستعملها في هذه الورقة والتي قد تبدو قابلة للتبديل ومتعدّدة الاستخدام. أوّلاً، أستخدم تعبير “الممارسة/الاتّصال الجنسي المثلي” في إشارة إلى ما ورد في كتابات جوزيف مسعد، وسأذكر بحثه لدى استخدامه. ثانيًا، أستخدم مصطلح “اللّواط” في دلالة إلى التسمية التي اعتمدها كتّاب نهضويّون للإشارة إلى “المثليّة الجنسيّة،” كالطهطاوي. ثالثًا، أستخدم الممارسة “السَدوميّة” للدلالة إلى الممارسات الجسديّة المتنوّعة والمصنّفة بشكلٍ متغيّر مع اختلاف السياق. إلى ذلك، أستخدم تعبير “السَدوميّ الشرقي” للدلالة إلى تصوير الغرب للرجال في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الّذين يقومون باتّصالاتٍ جنسيّة مع بعضهم.

 

أزمة النوع الاجتماعي خلال حقبة الصليبيّين

ثمّة حاجة إلى المزيد من التحليلات المتعلّقة بالتصويرات الأوروبيّة الموجودة خلال حقبة ما قبل الحداثة “للشرق” المُدرَك من منظور جنسي، الأمر الذي سيساهم في التطرّق إلى محدوديّة تاريخ الرغبة والاستعمار الذي قدّمه مسعد، إلى جانب وضع تحليلات كهذه في إطار عصر النهضة. إنّ قرّاء هذا النقاش هم على دراية بالمساهمة المهمّة لإدوارد سعيد في الاستشراق، بالإضافة إلى نقده العلني لعمل كتّابٍ في سياقات غربيّة سعوا في أعمالهم إلى امتلاك، وجذب، وإعادة التعريف عن أنفسهم من خلال “الشرق” المؤنّث. على سبيل المثال، فإنّ كشك لفلوبير “نموذج لكل التجارب المتّصلة بالشهوانيّة اتجاه الأنثى التي خضع لها قدّيسه أنطونيوس” (سعيد، 187). يخلص سعيد إلى أن كشك هي “رمز الخصوبة، شرقيّة بغرابتها، جنسانيّتها مترفة، وغير مقيّدة” (سعيد، 187).

إنّ مساهمة جوزيف مسعد المتصوّرة في هذا النقاش جديرة بالملاحظة: في اشتهاء العرب، يحاول مسعد، المتأثّر دومًا بسعيد، استكشاف كتاباتٍ استشراقيّة عن جنسانيّة العرب يعود بعضها مئات السنين إلى الوراء، من استعمار مصر حتى عصر الأنجَزَة بدءًا من التسعينات مع بروز المنظّمات غير الحكوميّة المدافعة عن قضايا مجتمع الميم في العالم. وقد أعطى اسمًا لهذا الشكل الجديد من الخطاب الاستشراقي حول الجنسانيّة العربيّة، هو “الأمميّة المثليّة.” قد يبدو أنّنا لسنا بحاجة إلى التعمّق أكثر في البحث في هذا التاريخ، لو لم يكن هناك تفاصيل على صلة وثيقة بالموضوع تمّ وضعها في الموقع الخطأ في سياق النقاشات حول الجنسانيّة. ثمّة روايات قديمة تظهر اشمئزازًا أوروربيًّا اتجاه “سَدوميّة” الأتراك، والمغربيّين، والمسلمين، والعرب (وقد استخدموا توصيفات لهذه الانتماءات تحطّ من قيمة الرجال السّمر منها). من هنا، سأقدّم لبعضٍ من هذه التصويرات الأوروبيّة القروسطيّة على أمل إعادة تركيز ديناميّة السلطة في هذا الحوار المفتوح والمتعدّد الجوانب على الأماكن التي همّشتها الروايات السابقة.

ننطلق من بداية المحنة، أي من سقوط/الاستيلاء على القدس/أورشليم. في كتابه إعادة “توجيه/تشريق” الرغبة: الكتابة عن أزمة النوع الاجتماعي في مصر خلال القرن الرابع عشر، يقول مايكل يوبل إنّ “الانحراف” الجنسي، وتحديدًا الممارسة السَدوميّة، كانت تُعتبر من أكثر الجوانب المُنفّرة في المجتمع الإسلامي منذ أواخر القرن العاشر وما بعده، وأصبحت رمزًا مرتبطًا بثقافة كاملة” (يوبل، 233). فيما بعد، يقتبس الكاتب إشارة إدوارد سعيد الخاصّة بالخصوبة الملتصقة بالشرق، وتحديدًا حين قال إنّه “ليس هذا محور تحليلي، للأسف، على الرغم من ظهور الأمر بشكل متكرّر” (يوبل، 233). وليوبل حجّة في هذا الموضوع، هي أنّه “من ضمن تجربة ثقافة الغرب القروسطيّ، إنّ ما يشير إليه سعيد من “وعد الشرق الجنسي” مرتبط “بشكل وثيق بالرغبة في وبالخوف من الاحتكاك بالمثليّة الجنسيّة الذكريّة” (يوبل، 233). ويضيف أن الاستشراق هو في عمقه مشروع ذكوريّ.

تتجلّى في هذا المشروع مسألة شديدة الأهميّة تتمثّل بوجوب خلاص “الأرض المقدّسة” وما يتبع ذلك من استعادة لأرضٍ أوروبيّة، وشرف وقيم رجوليّة وذكريّة أوروبيّة. يكتب يوبل أن “فانتازما استعادة الأرض المقدّسة هي بحدّ ذاتها ردّ ذكوري على التهديد المفترض للاجتياح المثليّ” (يوبل، 233). والروايات الشفهيّة والسرديّات المتناقلة عن الحروب الصليبيّة المتغلغلة في المناهج التعليميّة يُرسَم مقابلها تاريخٌ غني ومثير للفضول: يدعو بابا روما المؤمنين/ات إلى العمل على تجنيب أساسات المسيحيّة الدمار والسلب؛ والأمبراطور البيزنطي يحضّ جميع المؤنين/ات الحقيقيين/ات، سواء أكانوا كاثوليكيّين/ات أو غير ذلك، على إيقاف عمليّة استباحة القبر المقدّس. جيش من الأطفال المحمّسين والشغوفين يشقّون البحر آملين في أن يشكّلوا حاجزًا بين المحمديّين الأشرار والحجّاج البارّين في أورشليم. كل هذا، ولا يتمّ تذكيرنا في لبنان سوى بالقصور العظيمة والخالدة التي لم يشيّدها غير الصليبيّين.

بطبيعة الحال، هناك روايات مهمّة تختلف على كل نقطة ذكرتُها تقريبًا. يلاحظ يوبل في متابعةٍ للتاريخ الجنسي نفسه للصليبيّن أنّ “إحدى وثائق الصليبيّين، وهي رسالة كتبها ألكسيوس الأوّل كومنينوس إلى السيّد روبيرت أوف فلاندرز قبل العام 1098، تُبيّن ممارسات جنسيّة مشينة ارتكبها “الكفّار” الذين يتقدّمون” (يوبل، 233). بالطبع، لا داعي، ربّما، لأن يتفاجأ أحد من أنّ سيّدًا من فلاندرز كان متورّطًا في هذه المسألة. فلاندرز النبيل هذا أصبح منزلًا ملكيًّا للأمبراطوريّة اللاتينيّة وانتزع قسطنطينيّة من سلالة كومنينوس التي قسم على الوفاء لها في بدايات الحروب الصليبيّة. يتابع يوبل أنّ “مجموعة الرسائل حول تجاوزات المسلمين” تصل إلى حدّ اعتبارها “خطيئة السَدوميّة المشينة” (يوبل، 233).

إنّ هذه الخطيئة المشينة هي كالتالي: رجال من كل الأعمار والمراتب (فتيان وشبّان ورجال وشيوخ، من كلّ الفئات الاجتماعيّة، وحتّى “الكهنة” و”الرهبان” منهم – على الأرجح كان أصل هاتين التسميتين إمّا “علماء مسلمين” أو نوع من الإدانة لطوائف محلّية من الدين المسيحي) جميعهم “أذلّتهم خطيئة السَدوميّة، وقد تسبّبوا بقتل مطران بسبب هذه الخطيئة المشينة” (يوبل، 234). كان موت رجل دين مسيحي هو العامل الذي حرّك ربّما قرّاء هذه المخطوطة المُختلقة. وبحسب يوبل، إنّ هذه البروباغاندا المكثّفة جعلت من السَدوميّة الشرقيّة سلاحًا مصوّبًا نحو جوهر المسيحيّة وجوهر الرجولة. غيبرت نوجنت، المُقتبس عنه أيضًا، يطرح فكرة أنّ ما يتمّ الإضاءة عليه في الرسالة هو أنّ التهديد الفعليّ “لرغبة الكافر” يكمن في رفضه الجوهري للنساء كأغراض جنسيّة (يوبل، 234).

وتتابع الرسالة حول الكفّار أنّهم وفي حين لا يبتعدون بالضرورة عن الجنس الأنثوي، وهو أمرٌ “يمكن إيجاد عذر له نظرًا إلى توافقه مع الطبيعة – يذهبون أيضًا إلى الجنس الذكري، متجاوزين حتّى القواعد الحيوانيّة، والقوانين البشريّة” (يوبل، 234). ومن دون الغوص كثيرًا في القراءة المعمّقة التي أقوم بها لوثائق أخرى، إنّ هذه النظريّة القائلة إنّ الآخر الشرقيّ هو ضد الطبيعة، والشرعيّة، وموضوع في خانة الوحش/الإرهابي/”الشاذ” (“فاغ” بالإنجليزية، مصطلح أستعيره من جاسبير بوار)، بهدف دفع قسم من الشعوب باتّجاه سلوك معياريّ أكثر، ستلقى صداها في قصّة ذات إمامٍ مصري في بارس.

نستنتج ممّا تكشفه الرسالة حتّى الآن، ومن لحظة نشرها، أنّه بإمكاننا افتراض أنّ تصنيف سكّان أورشليم المقدّسة الكفّار يهدّد، بسبب “انحرافهم” الدنيء، رجولة المسيح، حتّى أنّهم قتلوا مطرانًا بممارساتهم السدوميّة المسيئة” (يوبل، 234)، فأيّ انعكاس لأمر كهذا على بيت الله؟

لا يصعب كثيرًا توقّع تكملة هذه الرسالة إذا ما تتّبعنا النبرة العامة لمضمونها: المزيد من الإدانة “لانحراف عربي” جنسي، وللاتّصال الجنسي المثلي، ولكنّه “بقدر ما يبدو أنّه على زوال، بأضعاف قدر ذلك هو موجود ومشتعل كشعلة مضطرمة، ومتسلّلة تحت مسمّيات العلاقات الإنسانيّة إنّما المتّسخة بهذا الاختلاط الجنسيّ غير المألوف حتّى لدى البهائم، والممنوع على المسيحيّ رؤيته حتّى.” وعن تعدّد الزوجات، “هو متاح حتّى للبؤساء، بنظرهم، ويُنظر إليه بأقلّ جديّة، إلّا إذا تدنّست كرامتهم بالرائحة المنبعثة من حظيرة الخنازير، أي الممارسات الوسخة بين الرجال” (يوبل، 234). إنّ هذه الأفعال المرفوضة لدرجة أنه لا يمكن المسيحي التقيّ حتّى النظر إليها من غير المعقول “تجاوزها أو محوها،” كما يقول يوبل. وبالفعل، إن موضوع الشرقي السَدوميّ سيعود ليجتاح كتابات مستقبليّة، كما سنبيّن فيما بعد.

 

سنوات الـ1600

كان من المهم بعد مناقشة الروايات حول المواقف الأوروبيّة خلال حقبة الصليبيّين اتّجاه الرغبة الجنسيّة المثليّة وتصوير “الشرقي” كسَدوميّ بجوهره، أن أراجع محطّةً مفصليّة في تاريخ الرغبة و”التفاعل بين الشرق والغرب.” في هذه المرحلة، من المهم أن نتذكّر أنّنا وفي معرض زيارتنا لمحطّات تاريخيّة عديدة، نمرّ بسياقات مختلفة. لذا، لا يمكن أن ندّعي أنّ المواقف “الأوروبيّة” اتجاه الممارسة الجنسيّة المثليّة ظلّت هي نفسها، ولا أن أُفهم وكأنني أحاول رسم نمط واضح هنا. أكرّر أن مشروعي هو البحث في محدوديّة التأريخ المتعلّق بالجنسانيّة “العربيّة،” وبزوغ جنسانيّة “غربيّة،” ومع تقدّمي في البحث، أُظهر دور المفكّرين النهضويّين في إنتاج رهاب المثليّة كسمة مركزيّة للمشروع الحداثوي.

تسود العالم ما قبل الحداثة رواياتٌ مماثلة لسَدوميّين مسلمين. في الأتراك، والمغربيّون، والإنجليز في عصر الاستكشاف لنبيل مطر الذي يكتب حول تنميط المسلمين في الكتابات الإنغليزيّة في عصر النهضة، يلاحظ مطر كيف تمّ “تصوير المسلمين كشعب تحدّى الله، والطبيعة، والقانون الإنغليزي، وبالتالي، استحقّ العقاب” (مطر، 112). من هنا، وفي بدايات سنوات الـ1600 كما يذكر مطر، بلغت حدّة القلق اتجاه الشرق السَدوميّ أقصى درجاتها، وقد ساهمت في تأجيجها تقارير حول بواخر أوقفها الأتراك ولاحقًا أُلقي القبض على الطاقم على متنها وتمّ أسره على خلفيّة “سَدوميّته” (مطر، 116). وقد دفعت تقارير ظهرت في أعوام القرن السابع عشر إلى إصدار كتاب في العام 1680 بعنوان قضيّة مئات الأسرى الإنجليزيين الفقراء في الجزائر. ولكن، لا يُقصد بذلك القول إنّ الرغبة الجنسيّة المثليّة لم تكن منتشرةً في سياقات إنجليزيّة، أو حتّى القرصنة في البحر. في الواقع، وبحسب مطر، “إنّ الممارسات الجنسيّة المثليّة كانت سائدةً في صفوف البائعين المتجوّلين والملّاحين، وكانت المملكة في بداية القرن يحكمها الملك جايمس الأوّل المثليّ، والذي كان مستشاره مثليًّا أيضًا (فرنسيس بايكن)، وكان مسؤول أسطوله البحري جورج فيلييرز متجاوبًا مع رغباته المثليّة. ولكن، ما من كاتب إنجليزي فكّر في تبيان أي رابط للسَدوميّة بالبروتستانتيّة المسيحيّة، إنّما بالإسلام فقط (مطر، 116).

في الواقع، نجد أنفسنا مضطرّين لشرح مسألة محدّدة. لماذا يشعر الكتّاب الإنجليز بضرورة إثارة نقاش حول “السَدوميّ الشرقي” والتوعية في شأنه، فيما المثليّة الجنسيّة منتشرة في أنحاء كثيرة من مجتمعهم، إن لم يكن ذلك تعبيرًا عن مواقف عنصريّة راسخة وافتراضًا عامًا بأنّ التعبير عن الاتّصال الجنسي المثلي في “الشرق” يُعدّ بجوهره انحرافًا وخطيئةً، أو ينظر إليه كتهديد؟ وهنا أرى أنّ صورة “العربيّ” كشخص سَدوميّ بذاته تمّ صقلها في المخيّلة الأوروبيّة، وقد بات مؤكّدًا تضمين العربي السَدوميّ في الوعي الغربي-الأوروبي المتّصل بمواقفه من العرق والرغبة.

 

الراقصون الشرقيّون الذكور ونظرة الذكور الفرنسيّين إليهم

في تاريخ نبذ الاتّصال الجنسي المثلي بين الذكور في سبيل بناء الأمّة، يبرز بالطبع مَثلُ استعمار نابوليون بونابارت لمصر. وبما أنّها البداية الكلاسيكيّة ذاتها التي يعتمدها كتّاب الاستعمار، أتعامل مع اجتياح نابوليون لمصر كواقع جدير بالتعليق لكونه يشكّل محطّةً تاريخيّة مفصليّة أخرى في تأريخ الرغبة.

في اللّغة المتداولة، روّج نابوليون لنفسه كمخلّص للإسلام، وكمنتصر على بابا الفاتيكان، وكمحرّر لمصر من فجور المماليك من خلال إعلانٍ نصّه بونابارت ووجّهه إلى مصر في العام 1798. ذكر الجبرتي، الذي نقل عنه خوان كول في كتابه مصر نابوليون: اجتياح الشرق الأوسط، أنّ بونابارت موّل بنفسه احتفالات المولد النبوي على ضفاف النيل ذاك العام، والتي اختتمت ثلاثة أيّام من المسيرات والأنشطة الترفيهيّة والاحتفاليّة،؛ ودينون، في روزيتا، شهد على “رقص إباجيّ للاحتفال ]بمناسبة مقدّسة[” (كول، 124) أدّاه رجال:

الرقصة لم تكن تشبه الغناء الذي سبقها. لم تكن تعبيرًا عن الفرح، أو الابتهاج، إنّما عن شهوانيّة تحوّلت سريعًا إلى خلاعة تثير الاشمئزاز بشكل تصاعدي. وكان ممثّلوها، الرجال، يؤدّون بأكثر الطرق دناءةً مشاهد لا يتيح الحبّ أن تتحقّق حتّى في الظلّ بين الجنسين.” (كول، 124).

في المقابل، لم يتذمّر دينون من إباحيّة المشهد، ولكن فقط من كون أصحاب هذا التصوير العلني للرغبة رجالاً يؤدّون المشهد بين بعضهم. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الجبرتي، كما ذكر كول، الذي “لم ترق له الأخلاق الجنسيّة التي يتمتّع بها الرجال والنساء الفرنسيّون/ات” (كول، 124).

من الجدير بالذكر أن ما وُصف في هذا التفاعل الثقافي هو ردّة الفعل الأوليّة لشخص فرنسي اتجاه ما يُعرف بـ “رقص البطن،” أو “الرقص البلدي” و”الرقص العربي التراثي.” وفي عمليّة إدخال “رقص البطن” إلى عقل المستعمِرين الأوروبيّين، تمّ تكريس صورة السَدوميّ “العربي” لدى تصوير الجنسانيّة “العربيّة.” الراقصون، أو “الممثّلون” هنا، هم “دومًا ذكور،” والرقصة بحدّ ذاتها وُصفت بأنها خلاعيّة لدرجة أنّ حتى الحب لا يسمح لشخصين من الجنسين تأديتها في الظلّ مع بعضهما” (كول، 124). إذًا، يعبّر دينون عن اشمئزازه من الصورة الجنسيّة للراقصين الشرقيّين التي شكّلها بنفسه (مجدّدًا، كان هذا رقصًا عاديًّا في مناسبة تقليديّة ودينيّة)، وبشكلٍ مثير للاهتمام، يؤشّر إلى أنّها صورة بإمكان شخصان من الجنسين المشاركة فيها مع بعضهما فقط، لأنّ في الرقصة طابعًا جنسيًّا إباحيًّا قد تصل درجته إلى حدّ الجماع. من الجدير ذكره هنا أن دينون يوظّف ثنائيّةً جنسيّة واضحة، أي أن هناك فقط “ذكور” و”إناث،” في السياق نفسه الذي لم يظهر فيه بعد أي تصنيف أو تسويغ عقلاني للفروقات الجنسيّة.

ليس هذا للقول إنّه لم يوجد في السابق أيّ ذكر للثنائيّة الجنسيّة في المجتمع العربي، إنّما أن تُوظّف هذه الثنائيّة. هنا، مع إدراج مفهوم التخلّف/الحداثة واستعماله لتبرير إدانة الممارسة الجنسيّة المثليّة، أمرٌ له دلالاته، وهو ذات أهميّة كبرى بالنسبة إلى مشروعٍ يبحث في محدوديّة التأريخ الذي يتناول مسألة الرغبة والتفاعل بين “الشرق والغرب.”

وكما ذكرنا آنفًا، في مشاريع كمشروع مسعد الذي سعى إلى تسليط الضوء على انعكاسات تبنّي المعرفة الأوروبيّة الإبستيميّة (مثل تلك المتعلّقة بالجنسانيّة والتصنيفات الجندريّة) بشكل غير متّصل بالتاريخ العربي لأشكال الجنسانيّة، يكون من الخطأ عدم خوض قراءاتٍ معمّقة للأمثلة والأحداث التي تشهد على “تفاعل بين الشرق والغرب.” هذه الأحداث، كالحدث المُشار إليه سابقًا، تتطلّب المزيد من النقاشات ووضعها في سياقاتها، إذ إنّ تبنّي المعياريّة المنسجمة مع التعبيرات السائدة في إطار الحداثة قد سَبَقَ، أو على الأقلّ، شكّل عاملاً في التطوّر “العربي” لرهاب المثليّة.

 

إمام في باريس

ثمّة مساهمة جديرة بالذكر، تعود لرفاعة رافع الطهطاوي، تخليص الإبريز في تلخيص باريز (إمام في باريس، الصادر في العام 1834). ذُكر الكاتب المهم والإمام الطهطاوي بكثافة في اشتهاء العرب (جوزيف مسعد) نظرًا إلى ظهوره اللاّفت في نصوصه الشبه-أنثروبولوجيّة (مسعد، 31) المتعلّقة بباريس. في “التخليص،” كما ينقل مسعد عن الطهطاوي، إنّ إحدى أفضل الخاصيّات الفرنسيّة كانت “غياب الانجذاب نحو الفتيان أو حبّ كتابة القصائد الملقاة إليهم، إذ لا إشارة عندهم إلى ذلك، خاصّة وأنّ طبيعتهم وأخلاقيّاتهم ترفض الموضوع” (مسعد، 32). يستطرد الطهطاوي في المسألة ليقول إن الفرنسيّين، حين يترجمون الشعر العربي إلى الفرنسيّة، لا يترجمون “عشق الغلمان” (مسعد، 32). وهو يشيد بهذه الخطوة ليقول إنّ حتّى ذكر هذا الموضوع يُعتبر من التابوهات (وهو أمر محقّ بالنسبة إليه).

نظرًا إلى المحدوديّات التي تفرضها ترجمة النصوص لناحية إنتاجها لهوّة إبستيميّة بين النصّ المترجم والنصّ الأصلي والسياق الذي أُنتج فيه، ولكون فعل نقل المعنى من تراثٍ إلى آخر يحمل معه أحكام القارئ/ة، يصبح مهمًّا أن نقوم بقراءة تخليص الإبريز في تلخيص باريز للطهطاوي بلغته العربيّة الأصليّة لنتمكّن من تشكيل فهمٍ كاملٍ للفروقات الدقيقة بين المصطلحات المستخدمة. أمّا هذه الفروقات، والقراءات اللّاحقة لمفكّرين نهضويّين، فتغدو بالنسبة إلينا مؤشّراتٍ تساعدنا في تكوين فهمٍ أفضل لمواقف النخبة العربيّة المتغيّرة اتجاه الممارسات الجنسيّة المثليّة.

في القسم الثاني من الجزء الثالث من نصوص الطهطاوي حول الباريسيّين/ات، يبذل الكاتب جهدًا كبيرًا للحديث عن العلاقات الجندريّة في باريس، ويقابلها في الوقت نفسه مع الوضع في المجتمع الذي نشأ فيه. ويقول: “إحدى سماتهم (الباريسيّين) المنشودة تكمن في عدم انجذابهم إلى الأحداث، أي الفتيان، ورفضهم للسعي وراءهم أصلاً” (الطهطاوي، 87). من الجدير بالذكر أيضًا أنّ الطهطاوي لا يذكر “اللّواط” مباشرةً عند هذه النقطة، ولا “الغلمان،” بل فقط نزعة أو ميل اتجاه الفتيان قبل سنّ الرشد، الأمر الذي لا يتوافق مع الترجمة المتوفّرة في نصّ مسعد. وبهدف تكريس مساحة لترجمة النصّ الأصلي، سأقوم بنفسي بترجمة النصّ الأكثر أهميّة بالنسبة إلينا، لكونه النصّ الذي يحظى بالقسط الأعلى من تركيز كتّاب النهضة، إلى جانب كونه النصّ الأساسي من ضمن لائحة المراجع التي اعتمد عليها مسعد. إنّ قراءة شاملة لهذا النص من شأنها أن تسمح لي في استكشاف الفروقات الدقيقة في الفكرة التي يتناولها الطهطاوي، ولكن أيضًا، ستسمح لي بفهم المصطلحات الثقيلة المعاني التي استخدمها الطهطاوي للدلالة على الممارسة الجنسيّة المثليّة، ومقارنتها بالترجمات السابقة.

إذًا، ومن بعد إشادته بالباريسيّين لناحية عدم انجذابهم إلى الفتيان، يردف الطهطاوي قائلًا:

لا يأتون على ذكر الموضوع حتّى في ما بينهم. فهو مخالفٌ لطبيعتهم وأخلاقهم، وفي أقوالهم الحسنة وشعاراتهم. يُذكر أنّ الغزل الموجّه إلى شخص من الجنس نفسه هو من التابوهات، إذ لا يصحّ أن يقول فرنسيّ: لقد أحببتُ غلمانًا. إنّ هذا القول مرفوض بشكل قاطع، وبالتالي، إذا أراد أحدهم ترجمة كتابٍ لنا إلى لغتهم، سيبدّلون حتمًا الكلمات المستخدمة. وفي هذه الحال، سيُقال “لقد أحببتُ فتاةً.” سيتخلّصون من أي إشارة إلى “اللّواط” الذي يرون فيه فسادًا أخلاقيًّا، وهم على حقّ. فكلّ من الجنسين يحمل في ذاته ميزةً تشدّ الجنس الآخر مثلما يجذب قطب المغنطيس الحديد، ويُلمس تيّار كهربائي جاذب للأشياء. وبالطريقة نفسها، إذا ما أرادت هذه الأجناس أن تختلط، ستنتفي هذه القاعدة ونصبح خارجين عن الطبيعة. إنّ هذه المسألة تُعدّ فجورًا بالنسبة إلى الفرنسيّين.” (ترجمتي الخاصّة – الطهطاوي، 87-88).

من خلال الفقرة أعلاه، نفهم أنّ الطهطاوي كان يعلّق على إدانة معيّنة لـ”انحراف جنسي” في أوروبا القرن التاسع عشر هو الأكثر ألفةً بالنسبة إلينا. في الواقع، لا داعي للتذكير بأنّنا نتحدّث عن مرحلة تفحّصها فوكو عن كثب وفكّكها بهدف الكشف عن أساليب السلطة في التعاطي مع “المنحرفين غير الطبيعيّين” كمرضى مكانهم مؤسّسات “تأهيل.”

ولكن قبل أن أتابع الحديث عن الطهطاوي، أشير إلى ضرورة إجلاء الرابط الموجود بين التصويرات المتعلّقة بـ”الشرقيّ السَدوميّ،” وتاريخ الجنسانيّة كما تناوله فوكو، وبروز تشكيلات هويّاتيّة إسلاميّة تعاكس بجوهرها الحداثة الأوروبيّة.

في “وحش، إرهابي، “شاذ:” الحرب على الإرهاب وإنتاج وطنيّين طيّعين،” تنسب جاسبير بوار إلى ميشال فوكو إنتاجه لخانة الوحش في السياق الأوسع لتاريخ الجنسانيّة. فجينيالوجيّة فوكو الخاصّة “بالوحش،” الوحش البشري أوّلاً، ذاك الذي يجمع ما هو ]غير طبيعي[ بما هو ممنوع، والذي لا سبيل لتقويمه فيما بعد، وذاك الذي يتطلّب استحضار السلطة إلى جسده من أجل إصلاحه، ذاك المستمني، و”المنحرف” الجنسي، مهمٌ جدًا في تشكيل فهمنا لظهور المثليّ الجنسي والنظرة إلى المثليّة الجنسيّة كمرض.

إذًا، هؤلاء الّذين لا أخلاق لهم والخارجون عن الطبيعة، هؤلاء أنفسهم الّذين سمحوا بأن تستعبدهم نزواتهم البدائيّة وتسبّبوا بانعدام بعدهم الأخلاقي بأنفسهم، وفي الوقت نفسه، هم الّذين لا سبيل لتقويمهم، ويحتاجون إلى دفعاتٍ زائدة من أجل إصلاحهم وإعادتهم إلى الطريق الصحيح. هؤلاء وُلدوا بموازاة نشأة “المنحرف الجنسي” وفي جوهر هذا الظهور داخل المؤسّسات الطبيّة الرسميّة العلاجيّة. من هنا، وبحسب بوار، “ربط فوكو سمة الوحشيّة بالجنسانيّة من خلال تحليلاتٍ محدّدة تتعلّق بتوظيف الأجساد المُجندرة، وضبط الرغبات المقبولة، والتلاعب في المساحات المحليّة، وتصنيف الممارسات الجنسيّة مثل السَدوميّة” (بوار، 119). هي إذًا جينيالوجيّة فوكو الخاصّة “بالوحش” التي تسمح لنا بفهم العلاقة بين توصيف “الشرقي السَدوميّ” وتاريخ الجنسانيّة الأوروبيّة.

إذًا، نرى كيف لا يمكن الفصل بين ولادة “وحش” فوكو واجتياح نابوليون لمصر، مثلاً، حين كان الراقصون الشرقيّون الذكور يثيرون اشمئزاز المستعمِرين ورغبتهم في الآن ذاته. بالإضافة إلى ذلك، أرى أن لا إمكانيّة للفصل بين “الشرقي السَدوميّ” و”وحش” فوكو لناحية أنّ كِلَيْهما ضُمِّنا في ثنائيّة الخنوع والقدرة على الفعل، والخروج عن الطبيعة وانعدام الأخلاق. من هنا، بإمكاننا اعتبار أنّ هذين الأمرين المبغوضَين هما سِيّان، ومرتبطان بالتركيبة نفسها من السلطة، والمؤسّسات القضائيّة-الرسميّة، والطبيّة، والاستعماريّة التي خلقتهما وسط استعجالٍ واندفاعٍ للتجريم، والتشخيص المرضي، والسيطرة على هؤلاء “الوحوش.”

علاوةً على ما سبق، يمكن استنباط نقاط مثيرة للاهتمام من النصّ، خاصّة لجهة ما يكشف حديث الطهطاوي عن الفرنسيّين الباريسيّين، عن مجتمعه الخاصّ. ففي حجّته المتعلّقة بالطابع المتماهي مع الطبيعة للمغازلة بين الجنسين مقابل خروجها عن الطبيعة في سياق المثليّة، وفي حجّته “العلميّة” التي أراد عبرها دعم فكرته، يكشف الطهطاوي أنّ النخبة المصريّة كانت لا تزال تمارس “اللواط،” وتنظم الأشعار إلى الفتيان، وأن لا موقف محسوم ممّا إذا كان الاتّصال الجنسي المثلي مستهجَنًا من الناحية الأخلاقيّة، حتّى في شكله الكلامي.

تبعًا لما سبق، نجد أنفسنا في مواجهة حقلٍ آخر مثير للاهتمام، وهو كيفيّة تصنيف الطهطاوي للذكر والأنثى. في ترجمة خالد الرويهب للجنس، يذكر أنّ الكلمة لدى العرب مرتبطة أكثر بالنوع في حقبة ما قبل الحداثة. ولكنّها تُترجم أحيانًا كأنّها تعني “الجنس البيولوجي،” ولا تدلّ أبدًا إلى الجنسانيّة” (الرويهب، 159). من هنا، يأتي رفضي الشخصيّ لترجمتها في النصّ أعلاه إلى أي كلمة أخرى، بما أنّ الجنس/الجنسانيّة تحمل معها سياقات مشحونة لم يكن الطهاطوي واعيًا لها أو متعاملاً معها أصلاً.

في مقابل ذلك، ثمّة نقطة مثيرة للاهتمام في نصّه الشبه-أنثروبولوجي، تتعلّق بإخفاء الأوروبيّين لأيّ ذكر لاتّصال جنسي مثليّ:

لا يجوز أن يقول رجل: لقد أحببتُ غلمانًا. إنّ هذا القول مرفوض بشكل قاطع، وعليه، إذا أراد أحدهم ترجمة أحد كتبنا إلى لغتهم، سيبدّلون حتمًا الكلمات المستخدمة. وفي ترجمة جملة كهذه سيقولون “لقد أحببتُ فتاةً،” يعني أنهم سيتخلّصون من أي إشارة إلى “اللّواط” الذي يرون فيه فسادًا أخلاقيًّا” (الطهطاوي، 88، ترجمتي).

بإمكاننا فهم مسألة من هذه الفقرة، وهي أنّه في الفترة التي كان الطهطاوي يكتب خلالها، كانت مواقف الفرنسيّين اتجاه الممارسات الجنسيّة المثليّة أكثر تشدّدًا ممّا كان متوقّعًا. فالتاريخ الذي أعلمنا به فوكو وغيره رسم صورةً بيّنت طبيعة التعاطي مع المثليّين كمرضى، ممّا أدّى إلى إنشاء المصحّات. ولكن، نفهم أنّه من خلال هذا الخوف الجندري الذي أنتجه تاريخٌ طويل من التفاعل مع الشرق، بنى الغرب تركيبةً أخلاقيّة حيال السَدوميّة و”اللّواط” سبقت التاريخ الحديث لظهور “القمع الأوروبي” (وبالتالي، من المحتمل أن تكون قد أدّت إلى حجّةٍ ثانية تدحض الفرضيّة القمعيّة التي تناولها فوكو في تاريخ الجنسانيّة).

من خلال النظر في التوصيفات المتعلّقة بالسَدوميّة العائدة إلى حقبة الصليبيّين، نسنتج أن القلق المتجذّر حيال “الشرقي السَدوميّ” تطوّر في تلك المرحلة، لما شكّلت الرغبة في الآخَر ومعاملته ك”آخَر” من علّةٍ موجبة لاجتياح أورشليم التي كانت تسكنها “وحوش” جنسيّة. ومن خلال النظر إلى روايات الملّاحين الإنغليزيّين في أعوام الـ1600، نلاحظ كيف تحوّل الخوف من “الشرقيّ المنحرف” إلى حالةٍ من القلق. فعلى الرغم من احتمال انتشار المثليّة الجنسيّة خلال هذه الحقبة في المجتمع الإنغليزي، ظلّت صورة “الشرقي السَدوميّ” الأكثر تأثيرًا. وقد تكرّر هذا الشعور في الروايات المتّصلة باستعمار مصر. أمّا الخوف من “الشرق الجنسي” وتصويره كمكان يحتاج إلى أن يُخلّص، فقد تمّ التشديد عليهما كعاملين ساهما في “بداية انطلاقة” الاستعمار الحديث.

كخلاصة، ومن خلال قراءة معمّقة للطهطاوي، فهمنا أكثر أنّه في المرحلة التي كتب فيها، كان الكتّاب الأوروبيّون قد بدأوا بإخفاء الأعمال المنسوبة إلى الشرق والتي أتت على أي ذكرٍ، مهما كان صغيرًا، للمثليّة الجنسيّة. ولكن، وبالإضافة إلى التوقّف عند تاريخ التصويرات المتعلّقة بـ”الشرقي السَدوميّ،” نلاحظ أنّه ومع انطلاقة المشروع النهضوي – على نحوٍ طليق – وارتباطه بالنخبة العربيّة، أمثال الطهطاوي، سعيًا إلى “تحديث” المجتمعات العربيّة بالاستناد إلى المثاليّات والأخلاقيّات الفيكتوريّة، كان الكتّاب العرب قد نسجوا مقاربتهم وردّة فعلهم اتجاه التعبير الجنسي المثليّ، مبرّرين رهاب المثليّة، الحديث التشكّل، من خلال حججٍ منسوبة إلى المنطق، والعلم، والطبيعة، والأخلاق.

إلى ذلك، نفهم أن تاريخ الجنسانيّة في العالم العربي لم يبدأ مع بحث جوزيف مسعد، ومع تبنّي سكّان البلاد الفاعلين للمشروع الذي اشتُهر بـ”الأمميّة المثليّة،” ولكنّه يمتزج أيضًا مع تاريخ الجنسانيّة السائد الخاصّ بفوكو والمرتبط بالأخلاقيّات الفيكتوريّة نفسها التي خلقت كليهما. يدّل هذا الواقع إلى أنّنا بحاجة إلى إعادة التفكير في كيفيّة إدراكنا لمفهوم “المثليّ الجنسي” كهويّة غربيّة بامتياز. كما يقترح هذا البحث فكرة أنّ “رهاب المثليّة في العالم العربي،” أو الردود الشعبيّة على الحركات الحقوقيّة المدافعة عن حقوق المثليّين، لم ترَ النور في أواخر القرن العشرين المرتبطة بالإمبرياليّة الأميركيّة، ولكنّه متشابك أيضًا مع الربط الجوهري بين الحداثة العربيّة والشعور بالنفور من الجنس.

إذاً، نستطيع من خلال تشكيل فهمٍ كهذا أن نؤكّد الحاجة إلى القيام مرّةً أخرى بزيارة محطّاتٍ زمنيّة تبلورت خلالها هذه الفرضيات حول الشرقيّين، خاصّةً من خلال الروايات والمعطيات التي نقلها نبيل مطر مثل حادثة خطف الإنغليزيّين الملّاحين، وأيضًا من خلال اجتياحات المملكات المسيحيّة في القرون الوسطى، مثل أحداث شبه الجزيرة الإيبيريّة، وسيسيليا، وصولاً إلى قسطنطينيّة. إلى ذلك، أعتقد أن هناك حاجة إلى عمل فيلولوجيّ/لغوي ملموس يتناول المصطلحات المتعلّقة بالجنسانيّة والتي نستخدمها اليوم في اللّغة العربيّة، بالإضافة إلى الكلمات الموجودة على مدى الأعوام المئتين السابقة، وذلك بهدف إحاطة أفضل بـ”الرهاب العربي للمثليّة” وعلاقته بمصفوفاتٍ تاريخيّة واجتماعيّة وسياسيّة معقّدة.

 

ملحوظات: 
المراجع: 

Al-Tahtawi, Rifa’a Rafi’. An Imam in Paris: Account of a Stay in France by an Egyptian Cleric, 1826-1831. London: Saqi, 2011. Print.

—. Takhlīṣ al-ibrīz fī talkhīṣ Bārīz aw al-dīwān al-nafīs bi-Īwān Bārīs). Cairo: Kalimat, 2011. Print.

Cole, Juan Ricardo. Napoleon’s Egypt: invading the Middle East. New York: Palgrave Macmillan, 2008. Print.

El-Rouayheb, Khaled. Before homosexuality in the arab-islamic world, 1500-1800. Chicago: The U of Chicago Press, 2005. Print.

Matar, Nabil. Turks, Moors, and Englishmen in the age of discovery. New York: Columbia U Press, 2000. Print.

Massad, Joseph Andoni. Desiring Arabs. University of Chicago Press, 2008. Print.

Puar, Jasbir K. “Monster, Terrorist, Fag: The War on Terrorism and the Production of Docile Patriots.” Social Text 20.3 72 (2002): 117-48. Web.

Said, Edward W. Orientalism. New York: Vintage, 2004. Print.

Uebel, Michael. “Re-Orienting Desire: Writing on Gender Trouble in Fourteenth-Century Egypt.” Gender and Difference in the Middle Ages, edited by Sharon Farmer and Carol Braun Pasternack, NED – New edition ed., vol. 32, University of Minnesota Press, 2003, pp. 230–258. JSTOR, www.jstor.org/stable/10.5749/j.cttttsps.